زهير كاظم عبود
بدأت بواكير الانشقاق داخل قيادات وقواعد حزب البعث العربي الاشتراكي بين تيار اليسار واليمين منذ العام ١٩٦٣ ٬ وتبلور هذا الانشقاق فعليا بعد المؤتمر القومي السادس للحزب ٬ ومثل ميشيل عفلق مؤسس الحزب الاتجاه اليميني ٬ في حين ظهرت قيادات ثورية أخرى تمثل الاتجاه اليساري ٬ وبذلك تخلصت القيادة اليسارية داخل تنظيمات البعث عربيا من ابوية ميشيل عفلق وهيمنته على التنظيم ٬ واعتبر كلا الاتجاهين انهما يمثلان الحزب الشرعي وعملت بشتى الوسائل على اقصاء الاخر ٬ ومنذ هذا التاريخ بدا الاتجاه اليساري في البعث الابتعاد والناي عن أفكار عفلق والطلاق النهائي مع سياسته وافكاره ٬ في حين ظهرت وطرحت بلورة أفكار تقدمية وتنويرية فكرية وعقائدية انعكست حتى على التسمية ٬ وبالرغم من الجهود التي بذلها عدد من قيادات البعث اليسار لتغيير اسم الحزب ٬ والتي بائت بالفشل بالرغم من انشقاق مجموعات تبنت اسم حزب العمال الثوري ٬ وتبنت القيادة السورية التي تمكنت من السيطرة على السلطة تبني الفكر اليساري وازاحة ميشيل عفلق وطرده ٬ وبقيت مجموعة البكر – صدام تتمسك بالاتجاه اليميني للحزب ٬ وتمكنت هذه المجموعة التي تحالفت مع عدد من العسكريين الذين يغلب عليهم الاتجاه القومي ٬ وضمنهم عناصر ثبت ارتباطهم بأجهزة الاستخبارات البريطانية من الانقلاب على حكم عبد الرحمن عارف في ١٧ تموز ١٩٦٨بيسر وسهولة ٬ والتي قادتها مجموعة البكر التي عرفت بتمسكها بالخط اليميني للحزب ٬ ولافتضاح دور المخابرات البريطانية تمكنت المخابرات الامريكية ان توجه قيادات السلطة للانقلاب على عدد من رموز الانقلاب التي مثلها عبد الرزاق النايف وعبد الرحمن الداوود وهما من اقطاب الانقلاب الرئيسية .
ومنذ الأسابيع الأولى لقيام سلطة البعث في العام ١٩٦٨ شنت أجهزة الامن العراقية حملة شعواء بتوجيه من قيادة السلطة لتصفية واعتقال عناصر البعث اليسار٬ وخصصت لهذا التوجه شعبة مختصة في مديرية الامن العامة ٬ وتمكنت من كسب واستمالة عدد من العناصر بالقوة والترهيب وتحييد آخرين ٬ واستمرت الحملة الشرسة خلال الفترة المذكورة اسوة بالحملة التي شنتها الأجهزة الأمنية ضد الشيوعيين والحركات الإسلامية ( السنية والشيعية ) ٬ ومن ثم تم تخفيف الحملة ضد عناصر الحزب الشيوعي العراقي بحكم التمهيد لقيام الجبهة الوطنية ٬ والتي كانت بمثابة المصيدة التي دخلها الحزب الشيوعي حيث تمكنت القيادات العليا للحزب من الناي والتخلص من هذه المصيدة ٬ وبقيت القاعدة الحزبية تنوء تحت سندان ومطرقة الأجهزة الأمنية التي خططت لتصفيتها ٬ واعتبرت السلطة جميع تلك الأحزاب المعارضة لتفردها بالحكم وسياستها مجموعات متآمرة تصدر محكمة الثورة بحق عناصرها احكام الإعدام التي لم تتوقف .
قدمت العديد من هذه الأحزاب عناصر من تنظيماتها تم تنفيذ احكام الإعدام بحقهم ٬ والعديد من عناصرها تمت تصفيته بصمت وبسرية تامة ٬ ووصل الامر ان تصدر السلطة تعديلا لقانون العقوبات العراقي ضمن المادة ٢٠٠ التي عاقبت بالإعدام :
آ ) كل من ينتمي الى حزب البعث العربي الاشتراكي ، اذا اخفى عن عمد ، انتماءاته وارتباطاته الحزبية والسياسية السابقة .
ب ) كل من انتمى الى حزب البعث العربي الاشتراكي ، اذا ثبت انه يرتبط اثناء التزامه الحزبي بأية جهة حزبية او سياسية اخرى او يعمل لحسابها او لمصلحتها .
ج) كل من انتمى او ينتمي الى حزب البعث العربي الاشتراكي ويثبت بعد انتهاء علاقته بالحزب الى أي جهة حزبية او سياسية اخرى او يعمل لحسابها او لمصلحتها .
د) كل من كسب الى اية جهة حزبية او سياسية شخصا ، له علاقة تنظيمية بحزب البعث العربي الاشتراكي ، او كسبه الى تلك الجهة بعد انتهاء علاقته بالحزب باي شكل من الاشكال وهو يعلم بتلك العلاقة .
وفي الوقت الذي كان جناحا البعث قد تمكنا من الاستيلاء على السلطة في سوريا والعراق ٬ الا ان الخلاف العقائدي تطور الى عداء شخصي شديد انعكس لتحين الفرص في جميع المجالات للإيقاع بالآخر ٬ وعزلت القطيعة بين السلطتين والدولتين عزلا تاما وصل الى سحب التمثيل الدبلوماسي بينهما ٬ وتحين الفرص لإضعاف الاخر باي شكل من الاشكال .
خلال هذه الفترة بدأت عناصر من المعارضة العراقية التخلص من سطوة وهيمنة أجهزة الامن العراقية فلجات الى دول الجوار بما فيها دول الخليج العربي ٬ وبنتيجة الضغط الأمني والاستخباري العراقي وسطوة أجهزة السلطة البعثية الصدامية وتغلغلها داخل تلك الدول باستثناء سوريا ٫ منعت تلك الدول المعارضين العراقيين من اللجوء اليها باي شكل من الاشكال واعتذرت عن استقبالهم ٬ بالوقت نفسه فتحت سوريا حدودها لكل المعارضين الذين شكلوا في بداية السبعينات من القرن الماضي بواكير التحالف المعارض لسلطة البكر – صدام ٬ والتي استفحلت بعد سيطرة صدام على السلطة وقيامه بالانقضاض على قيادات وعناصر الحزب الشيوعي وانفراط عقد الجبهة ٬ وقيامه بمجزرة قاعة الخلد التي قام بها بتصفية عدد كبير من البعثيين من الاتجاه اليميني لتوجسه منهم او لشكه بعدم موالاتهم له .
ظهرت الى العلن ( صحيفة التحالف ) التي اصدرتها الأحزاب المعارضة لصدام في دمشق ٬ وكانت تتكون من حزب البعث اليسار والحزب الشيوعي – القيادة المركزية والاتحاد الوطني الكوردستاني وحزب العمال الثوري والحركة الاشتراكية العربية وعدد من الأحزاب القومية ٬ وبدات سوريا في استيعاب اعداد العراقيين الفارين من سلطة صدام ٬ ومهدت لذلك بقرارها الاخوي والإنساني بدخول المواطن العربي الى سوريا بهويته الشخصية او بجوازات السفر المنتهية الصلاحية ٬ وفي الوقت الذي تمنعت جميع الدول العربية من دخول العراقيين دون سمة دخول وموافقة أجهزتها الأمنية ٬ فتحت سوريا أبوابها وجامعاتها ومدارسها وامكانياتها المادية على محدوديتها لكل العراقيين المعارضين لسلطة صدام ٬ وتجسد العمل المشترك للأحزاب المعارضة لسلطة صدام ضمن لجنة العمل المشترك التي تشكلت بما فيها البعث اليسار والأحزاب الإسلامية ذاتها التي تشكل السلطة اليوم في العراق .
ولم يكن هناك بديل للتنظيمات الإسلامية الشيعية سوى ايران وسوريا ٬ ولم يكن لبقية المعارضين سوى سوريا ملاذا ومقرا لحياتهم وعوائلهم ٬ وتمكنت تلك المجموعات من فتح مقرات وإصدار صحف ٬ ومنحت العديد منهم صفة اللجوء السياسي ٬ وقامت بتقديم المساعدات المادية والمعنوية للجميع دون استثناء ٬ وكانت مجموعة حزب البعث العربي الاشتراكي ( اليسار ) تنظيم العراق من يشرف ويدير كل هذه العمليات بتفاصيلها من خلال مكتب شؤون العراق في القيادة القومية ٬ والجميع كان يحلم بإزاحة واسقاط صدام الذي كان قد اطبق على السلطة بأسنانه وتمكن ان يحول تنظيم البعث اليمين وكل الأجهزة التنفيذية الى عناصر مخابرات لخدمة بقاءه بالسلطة ٬ لغاية قيام الولايات المتحدة الامريكية باحتلال العراق ٬ والتي كانت بالتنسيق مع أحزاب المعارضة العراقية جميعها باستثناء تنظيم البعث اليسار .
حين عادت مجموعات المعارضين العراقيين الى العراق بما فيهم الذين قبلوا بسلطة الاحتلال او تعاونوا معه او الرافضين له ٫ بقيت مجموعة يسار البعثيين العراقيين تراقب المشهد دون ان تدخل الى العملية السياسية ٬ وتم توزيع الأدوار وتوزعت المناصب القيادية للسلطة والحكم الجديد بالعراق ٬ سواء منذ بواكير الاحتلال وقيام مجلس الحكم العراقي في ظل وجود الحاكم المدني للاحتلال او من بعده حتى صدور الدستور العراقي في ١٥ أكتوبر من العام ٢٠٠٥ والذي حل محل قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
نصت المادة ( ٧ ) من الدستور العراقي التي تنص على ما يلي:
اولاً: يحظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الارهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر له، وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت اي مسمى كان، ولايجوز ان يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق، وينظم ذلك بقانون .
ثانياً: تلتزم الدولة محاربة الارهاب بجميع اشكاله، وتعمل على حماية اراضيها من ان تكون مقراً أو ممراً أو ساحة لنشاطه .
النص المذكور يحظر قيام كيان ( عنصري ) او ( إرهابي ) او ( تكفيري ) او( تطهيري طائفي ) اواي نهج يتبنى او يحرض او يمهد او يروج لهذا الكيان ٬ وخص بالذات ( البعث الصدامي ) ورموز هذا البعث ( وتحت أي مسمى كان ) ٬ وما يعنينا هنا التحديد الذي أشار له النص المذكور .
البعث الصدامي يشير الى التنظيم الذي كان يقوده صدام والذي يتحمل وزر جميع الجرائم والنكبات والحروب التي ارتكبها راس النظام والرموز المحيطة به ٬ والمنع يشمل هذا التنظيم وتحت أي مسمى ليستعيد عمله بتاريخه الأسود المليء بالدم في العراق ٬ لكن هذا التعبير والنص لا يتعدى الى البعث اليسار الذي عملت وتعاونت معه المعارضة العراقية في اقسى سنوات المحنة وتحت مظلته ٬ وجميعنا نعرف ان النوايا والاهداف تختلف جذريا وكليا ٬ وان البعث الصدامي افلس بعد ان تخلص منه العراق وتبخرت قاعدته المبنية على المنافع والمصالح وحماية النفس والاضطرار والقسر الذي اجبر اكثر العراقيين ان يكونوا ضمن هذا التنظيم .
تنظيم حزب البعث اليسار قدم العديد من الشهداء وتحمل عدد آخر من قياداته واعضاءه اضطهادا وعزلا وخسائر مادية ومعنوية لم يشملهم مثل اقرانهم تعويضا او حقوقا حصل عليها آخرين من أحزاب معارضة ٬ ويبدو ان هيئة المسائلة والعدالة التي كانت هيئة اجتثاث البعث سابقا فهمت النص على علاته ٬ فشملت البعث اليسار تحت مظلة البعث الصدامي وهو شمول غير منصف وبعيد عن العدالة ٬ ولاينطبق ولايشمل التنظيم السياسي لحزب البعث ( اليسار ) ٬ في الوقت الذي قامت السلطة الجديدة بغض النظر عن قيادات وعناصر بعثية صدامية دخلت العملية السياسية تحت مظلات وأسباب مختلفة ٬ ولما كان النص الدستوري خاصا ومحددا وواضحا فان الحظر يشمل الكيانات التي ورد ذكرها حصرا ٬ اما عبارة ( تحت أي مسمى كان ) فأنها تعود لتشمل البعث الصدامي ( مهما تغير اسمه او تزويقه ) مادام يدور ضمن هذا التنظيم ٬ ولكونه يتعرض ويتقاطع مع تنظيم كان طرفا من اطراف المعارضة العراقية الفاعلة ٬ ولما للبعث اليسار من دور مشرف وملموس بشهادة جميع القياديين في العملية السياسية اليوم .
ونص حظر البعث الصدامي يساء استعماله ويتم استخدامه بطرق انتقائية وغير عادلة للأسف ٬ وبمضي كل هذه الفترة على قيام نظام حكم جديد ٬ ومع وجود مرجعية قضائية تحسم جميع الجرائم التي تم ارتكابها ٬ خصوصا وان الجريمة لا تتقادم احكامها في القانون العراقي ٬ ما يجعل كل من ارتكب جريمة بحق الآخرين مسؤولا عن فعله امام القانون ٬ ومع الدقة التي نتوخاها في التشخيص والاستذكار ٬ وحتى تبقى وقائع التاريخ الحديث شاخصة امام اعيننا ٬ وان لا يتم غبن او غمط حق أي مكون شارك في معارضة سلطة صدام وتحمل بطشها وقسوتها واضطهادها ٬ وان تعميم فكرة البعث على جهات معادية لصدام وسلطته وتنظيمه وسباقة في معارضتها وتضحياتها غير موفقة وبعيدة عن الانصاف ٬ فهل سيتم انصاف حزب البعث العربي الاشتراكي ( اليسار ) التنظيم العراقي جناح سوريا ؟