لسبب ما، قرر المصريون إعادة تمثيل السيناريو التركي. وبدلا من قاعدة سواكن في السودان ها هم يذهبون إلى إريتريا، في حين تركوا مفردات العلاقة بين تركيا والصومال كما هي، فقط يسعون لاستبدال الدور التركي بدور مصري: قوات أو مستشارون عسكريون مصريون على الأرض وشحنات أسلحة لدعم القوات الصومالية أملا في كسب النفوذ، أو كسب المبادرة في مواجهة الإثيوبيين. يعتقد المصريون أن بإمكانهم النجاح في القرن الأفريقي فيما فشلت في تحقيقه تركيا.
من المؤكد أن الإريتريين ليسوا مثل السودانيين. يمكن أن تلصق الكثير من التهم بالقادة العسكريين السودانيين. العسكر من أسباب نكبة السودان. لكن أي زعيم سوداني، منذ أن كان السودان تحت التاج المصري، لم يتصرف إلا بأن يأخذ بالاعتبار وضع مصر ومكانتها. حتى الإسلاميون المندسون في هيكل الجيش السوداني والذين تسببوا في حدوث أنواع جديدة من الكوارث لبلادهم ما أدى إلى تقسيمها وغرقها بكل أنواع الحروب، كانوا يتصرفون على أساس أن مصر هي الغنيمة الكبيرة ما إن يصل الإخوان إلى حكمها. الإريتريون نوع مختلف من السياسيين، وبالخصوص زعيمهم الأزلي أسياس أفورقي. هذا الثائر السابق يرى نفسه وبلده مركز الكون ولم يتعامل مع أحد أو دولة، منذ أيام حرب الاستقلال عن إثيوبيا إلى يومنا هذا، إلا بمنطق الانقلاب على الصديق والداعم. لا توجد دولة في المنطقة لم تدعم حركة التحرر الإريترية في السبعينات والثمانينات، وتمت مكافأة كل هذه الدول بالجحود. أفورقي هو الانتهازية الانقلابية تمشي على رجلين. ولعل هذا ما جعل الجميع -فيما عدا الإسرائيليين- يمارسون أقصى درجات الحذر عند التعامل معه. ولا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد في أن منطق السياسة عند أفورقي قد تغير بانفتاحه على مصر وتقديمه ما يشبه مسعى التحالف معها كيدا للإثيوبيين.
◄ لسبب ما قرر المصريون إعادة تمثيل السيناريو التركي، وبدلا من قاعدة سواكن في السودان ها هم يذهبون إلى إريتريا في حين تركوا مفردات العلاقة بين تركيا والصومال كما هي
لا بد من تأييد خطوة مصر بإعادة النظر في قراءتها الإستراتيجية لموقعها الإقليمي وتأثير ما يحدث في جنوب البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن والقرن الأفريقي عليها. كان المصريون ينكرون خطورة الأمر، أو يحاولون الإنكار نتيجة عقدة تاريخية اسمها التدخل المصري في اليمن في الستينات وتفسيرهم له على أنه أحد أهم أسباب هزيمة 1967 أمام إسرائيل. منذ انهيار السلطة الشرعية في اليمن وتمكن الحوثي من السيطرة على البلد واندلاع الحرب مع دول التحالف عام 2015، حاول المصريون التملص من أي دور لهم في اليمن. لكن الجغرافيا لا ترحم، وسرعان ما وجدوا أنفسهم أمام صعود القوة الإيرانية في جنوب البحر الأحمر بواسطة الحوثيين. دفعت مصر فاتورة الخناق البحري الذي يمارسه الحوثي على العالم ككل بحجة مساندة حرب غزة. بعض التقديرات تقول إن عائدات قناة السويس تراجعت بمقدار النصف، وهو ما يشكل ضغطا كبيرا على الاقتصاد المصري المنهك أصلا.
إعادة القراءة الإستراتيجية المصرية للقرن الأفريقي كانت أكثر من ضرورية. لكنها إلى اليوم تبدو محصورة بمعطيين. الأول، هو فتح باب لإزعاج الإثيوبيين والضغط عليهم انتقاما من عدم تجاوبهم للوصول إلى توافق بخصوص ترتيبات سد النهضة وكمية المياه المارة في نهر النيل. وهذا يتم كما هو واضح من زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لأسمرة ولقائه مع أفورقي ومع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، ومن الحديث علنا عن تنسيق أمني وسياسي واقتصادي، والحديث الباطني عن مشروع إزعاج إثيوبيا. والثاني، قرار من الواضح أن القيادة المصرية اتخذته بنصرة الجيش السوداني سواء كان “ظالما أو مظلوما”. غاب اليمن تماما عن إعادة القراءة الإستراتيجية. وما يزيد القلق من ترتيب أولويات القراءة هذه، أن مصر لا تمتلك من الإمكانيات المالية والعسكرية ما يجعلها قادرة على تحقيق الهدفين المشخصين لديها، أي الضغط على الإثيوبيين بما يكفي لدفعهم إلى تقديم التنازلات في ملف السد، أو التأثير على الوضع العسكري القتالي في السودان في المواجهة المفتوحة بين الجيش وقوات الدعم السريع. لا يمكن المقارنة بين الإمكانيات التركية والإمكانيات المصرية. ورغم هذا، فإن تركيا آثرت “الانسحاب” من المنطقة، سواء بشكل دائم أو بشكل مؤقت (لا تزال سفينة الاستكشاف النفطي والغازي “الريس عروج” في طريقها إلى السواحل الصومالية).
لعل الامتداد الجغرافي البري بين مصر والسودان والعلاقة التاريخية بين البلدين يفرضان موقفا مصريا مع هذا الطرف أو ذاك. تعتقد القيادة المصرية أن فرص قائد الجيش الفريق أول عبدالفتاح البرهان أفضل من فرص قائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو. هل كان خيار الحياد أفضل من الانحياز؟ هذا موقف ستفتي فيه النتائج. لكن مصر بعيدة عن إريتريا وأبعد عن الصومال. قياس البعد هنا ليس بالكيلومترات، بل مرتبط بالقدرة والإمكانيات. فليس لدى مصر حاملات طائرات أو بوارج حربية ثقيلة تستطيع أن تستفيد منها لتسجيل حضور محسوس في جنوب البحر الأحمر. ولا تمتلك مكملات سلاح الجو من طائرات تزود بالوقود تسمح لها بالتلويح بقوتها الجوية إذا دعت الضرورة. ربما كان السيناريو سيختلف لو أن مصر ذهبت إلى اليمن مع دول التحالف العربي وضمنت لنفسها موطئ قدم هناك. أما مستوى القوات التي يمكن أن تنزل على سواحل الصومال، فسيكون مقيدا بقدرات الدعم اللوجستي، سواء المباشر من مصر باعتبار طول خطوط الإمداد البحري وانكشافها الكبير أمام الإثيوبيين والحوثي معا، أو غير المباشر لو افترضنا أن إريتريا ستصبح محطة لوجستية للقوات المصرية المنتشرة في الصومال. أضف إلى ذلك السؤال: ما هي طبيعة العدو الذي يمكن أن تواجهه القوات المصرية في الصومال؛ هل هو الإثيوبي المتمركز هناك بقوات تعدادها عشرات الآلاف والمزودة بالمدرعات والتي يتم دعمها لوجستيا بحكم التماس الجغرافي البري بين حدود إثيوبيا والصومال، أم الإرهاب من الإسلاميين الذين لن يترددوا في استهداف القوات المصرية؟
لعل المشاكل اللوجستية، على أهميتها، ستكون الأيسر لو تطورت الأحداث إلى مواجهة مع الإثيوبيين في الصومال. فالمصري هناك في بيئة غريبة لم يستطلعها استخباريا، تصل الأمور فيها إلى حد الطرافة عندما يجلس رئيسا البلدين العربيين للحديث من خلال مترجم باللغة الإنجليزية. فكم مترجما من السويحلية، لغة أهل الصومال، أو الإنجليزية، يحتاج الضباط والجنود المصريون هناك؟ ماذا عن نقطة الوصل بين البلدين، أي إريتريا أفورقي المتقلب؟
“التدخل” المصري في الصومال مسألة محفوفة بالمخاطر. وفيما عدا أفورقي، لا يبدو أن أحدا يساند مثل هذا التدخل، دوليا أو إقليميا. لم تضع تركيا الانتهازية ملف التدخل في القرن الأفريقي على الرف من دون سبب.
المصدر : جريدة العرب اللندنية