كتب رياض الفرطوسي
ساكون ربما الراوي الوحيد لهذه الاحداث‘
بعد ان روى المنتحل وصاحب المنصب وصاحب العقار السياسي‘
وصاحب التاريخ الملفق والمأجور واللص والمصرفي‘
والنصاب والدعي بطولاتهم وتاريخهم بطريقة مزيفة ومقلوبة.
خاصة ان الكثير ممن غادروا العراق لاسباب اقتصادية‘
او عشائرية او شخصية عندما تسألهم عن سبب خروجه‘
من العراق يردون عليك اما كونهم مطاردين‘
سياسيا او مشاركين بعمليات لقلب نظام الحكم في العراق.
كما لو اننا لا نعرف طبيعة السلطة‘
ولا نعرف طبيعة هؤلاء ايضا.
لذلك سيأتي دور الكاتب ليؤرخ بعض التفاصيل المنسية.
في الطريق الى قرداغ كنا نعبر مخاضات مائية‘
تحت البرد والثلج وبين الجبال والسهول‘
والوديان والمضايق وغابات وكهوف‘
وادغال ووحل وامطار.
مئات الكيلو مترات مشيا على الاقدام.
قضينا اياما وليال على هذا الحال.
الى ان وصلنا الى وجهتنا وهي مقرات قرداغ المحصنة.
كان في انتظارنا هناك ابو حسن العامري ( هادي العامري )
وابو علي البصري ( قائد قوات الامام ).
وبعد ان مكثنا يومان في قرداغ.
تهيئنا لمعركة تحرير مدينة ( سنكاو).
كل واحد منا كان يحمل اضافة الى بندقيته‘
( رمانات يدوية وزمزمية ماء وذخيرة كافية لخوض المعركة)
المسافة بين مقراتنا ( وسنكاو ) على الاقدام ليست قصيرة.
كانت المدينة محمية بمجموعات من الربايا المتفرقة.
ولكي نقوم بالسيطرة على المدينة كان يفترض
ان نسيطر على الربايا اولا.
توزعنا على شكل مجاميع ( كل مجموعة فيها خمسة اشخاص).
زمرنا القتالية كانت مدربة على حرب العصابات ( حرب الجبال).
_وهي عادة ما تكون خلف قطعات العدو_
في هذه اللحظات الحرجة وجد كل واحد نفسه امام مصيره‘
وامام اختبار صعب جدا بين ان يموت او ينتصر.
لان معركة الحرية كانت تحتاج الى غاية.
من اجل الموت بكرامة وشرف حتى وان لم يتحقق الهدف
وكنا جميعا على استعداد لهذه المواجهة على المستوى النفسي والبدني.
كان يتقدمنا نحن الخمسة احد المقاتلين يحمل ناظور ليلي
كدليل في ليل دامس لأنك لا تستطيع ان ترى حتى ابهامك في تلك اللحظات.
وبعد ان سمعنا كلمة السر _ المتفق عليها_ ( يا زهراء ) بدء الهجوم.
تحولت سماء سنكاو بفضل قنابل التنوير‘
( التي كانت تطلق من قبل الجيش) الى نهار.
اول من سقط جراء وابل الرصاص الذي تلقيناه
هو ( صاحب الناظور الليلي )فأصبحنا بلا دليل‘
فضلا على ان جميع الربايا محاطة بأسوار من الالغام الارضية.
كنا نخشى من الوقوع في الاسر لأن الامر لن ينتهي بقتلنا فقط‘
وانما ستكون عوائلنا هي الضحية ايضا.
كان الموقف يتطلب نوع من الهدوء والتروي في اتخاذ اي خطوة لاحقة.
ازداد الضجيج في الليل وبدأت رائحة الموت تفوح من المكان
سقط بعض الجرحى والشهداء نتيجه الالغام والمواجهات مع جنود الربايا.
وبعد اعادة تنظيم انفسنا من جديد‘
قمنا بعملية اختراق من خلال شق طريق امن بأتجاه عمق الربية.
رغم كثافة الرشقات من دوشكة منصوبة فوق مدرعة داخل الربية
كانت تعرقل عملية وصولنا اليها.
لكن جماعة الاسناد قاموا بعملية التفاف حول الربية من الخلف‘
وتم السيطرة على الموقف واسر الجنود الذين كانوا يطلقون النار.
هؤلاء المناضلون النجباء لازالت مقابر بعضهم شاخصة في قرداغ.
لكن السؤال هنا ماذا حل بمناضلي الامس الاحياء امام مغريات السلطة اليوم.
خاصة وانه لا يمكن ان يتحول الانسان فجأة‘
من مناضل وصوفي وترابي الى محتال ونصاب‘
واي تحول يحتاج الى طريق طويل.
البعض قاوم هذا الانحدار والتفسخ والبعض سقط فيه.
لأن البناء الداخلي متين ويقاوم التدهور والانجراف.
هناك من انهار بسرعة امام مغريات الحياة والسلطة‘
عندما اصبحوا خلف المكاتب وخلف السيارات المظللة‘
وخلف المشاريع وخلف المقايضات والمساومات.
بعد ان كانت تسيطر مواقف التضحية والايثار ايام النضال‘
اصبحت ايام السلطة تسيطر الثقافة السياسية الانشائية وتقاسم المصالح.
لذلك اختفى المناضل الثوري الذي كان يشم رائحة الخطر عن بعد‘
وحل محله المناضل الذي يشم رائحة المنصب والمصلحة والفائدة.
المناضل الان هو من يملك اكثر عقارات واجمل الكراسي الفاخرة‘
ومن يصعد اغلى سيارة ومن يسكن بأجمل البيوت‘
ومن يسافر على طائرات الدرجة الاولى‘
بعد ان كان ينتقل من على ظهور البغال بين الجبال والوديان.
السنجاب السياسي الجديد الذي تعلم ان يقفز من حزب الى تيار‘
ومن تكتل الى اخر ومن صفقة الى اخرى‘
ومن فندق الى اخر ومن مشروع اقتصادي الى مشروع سياسي.
وبعد ان كانت الغاية هي الحرية والكرامة والعدالة‘
اصبح الهدف المنصب والسلطة.