عباس العنبوري

مضى ما يربو على الاربعة شهور على اول اتصال بيني وبين الصديق العزيز الدكتور عبد القادر ارحيم مستشار الامن السيبراني في المجلس القومي الليبي طالباً مني بالحاح المشاركة في حضور مؤتمر حول الارهاب السيبراني ترعاه الاكاديمية العسكرية للدراسات الامنية والاستراتيجية. لم اكن متابعاً دقيقاً لطبيعة الاحداث الجارية في ليبيا، وجل معلوماتي عنها كان من الاعلام الذي اعطى صورةً قاتمةً للانقسامات السياسية وانعدام الامن والاستقرار في عموم البلاد. ابديت على خجل ووجل عدم ممانعتي من المشاركة في المؤتمر بعد معرفة تفاصيله. وبعد تأجيلين للموعد المقرر لانعقاده تم تثبيت موعده النهائي ليكون في الخامس من شهر آب- اغسطس الجاري.
لم تغب عن بالي فكرة اختطاف الامام موسى الصدر! ولم يحل قلة معلوماتي عن المؤتمر وشخصية الدكتور ارحيم دون رغبتي في خوض غمار المخاطرة وتحمل اعبائها. فانا شغوف بالمغامرة والاكتشاف. وهو الامر الذي جعلني اتغلب دوماً على الخوف والتردد.
لم يدخر الدكتورعبد القادر وسعاً لطمئنتي بان الاوضاع الامنية في بنغازي مستقرة. بل واستطيع ان ادعي بانه خفف كثيراُ من القلق المتأتي من خلفيتي المذهبية وانتمائي للتشيع، رغم اني لم اتحدث معه عن موضوع ديني او طائفي. ولكنه كان يكرر كثيراً بان جده (الحسين عليه السلام) وانني اذا ما زرت بنغازي فاني سأزور ارضاً تنتمي لأهل البيت عليهم السلام -بحسب وصفه ولفظه-.
بعث لي تذكرتي وسمة الدخول الى ارض بنغازي التي تخضع لسلطة الجيش العربي الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. وبقي يتواصل معي حتى آخر ساعات قبل رحلتي. وسط تحذيرات عديدة من الاصدقاء والاقرباء الذين كانوا يكثرون من تسائلهم الاستنكاري عن سبب ذهابي الى ليبيا في هذه الظروف. وكنت ابادر بالقول، باننا نعيش الحياة مرةً واحدة!
واليكم خلاصة ما رأيته في بنغازي …
بنغازي، مدينة تقع على البحر ضمن محافظة برقة الغنية بالنفط، وهي ثاني اكبر مدينة في ليبيا. فيها ميناء كبير، بل هو الاكبر في ليبيا، وهو بوابتها الرئيسية لتصدير النفط الذي يعد من اجود انواع البترول في العالم. فيها كورنيش على البحر يشبه كثيراً شاطئ الاسكندرية. جو المدينة معتدل تداعبك فيه نسائم البحر الجميلة في ليله الساكن. تنقص المدينة وشاطئها الجميل المرصوف بالكونكريت العناية بالنظافة والخدمات البلدية والمطاعم بجودة عالية او متوسطة. فمعظم الاطعمة المقدمة ذات طابع شعبي رخيص. تلمست في تعاملاتي المحدودة ان شعب ليبيا مضياف جداً، ويتعامل بغاية التواضع. يغلب على سلوكه البداوة بما فيها من فطرة سليمة وبساطة في التعبير واللفظ والانشاء.
منذ اللحظة الاولى لوصول الطائرة، احتفت بنا اللجنة المنظمة والقيادة العسكرية للجيش بطريقة منقطعة النظير. اذ شارك في المؤتمر عشرات القادة من الرتب العالية. وحضر رئيس الاكاديمية اللواء عون الفرجاني ونجل المشير خليفة حفتر ولده الدكتور الصّديق ممثلاُ عن والده. كما وحضر اعمال المؤتمر ممثلون عن معظم الدول العربية كمصر والاردن والجزائر وتونس والامارات والسودان، فضلاً عن العراق.
كانت اعمال المؤتمر مكتضةً طيلة ثلاثة ايام، ولم نتمكن من الخروج الا بضع سويعات استكشفنا من خلالها مدى الدمار الكبير الحاصل نتيجة الحرب الاهلية، او ما يسمونها في بنغازي (ثورة الكرامة) التي خاضها الجيش العربي الليبي بقيادة المشير حفتر للقضاء على الجماعات الارهابية والمليشيات بحسب تعبيرهم. ويُعد خليفة بلقاسم حفتر -والذي يدير شرق ليبيا ويتخذ من بنغازي مركزاً لأدارة حكمه- قائداً عسكرياُ معروفأً شارك في معركة اكتوبر وتم اسره في معارك ليبيا مع تشاد في ثمانينيات القرن الماضي ثم عاش في منفاه في الولايات المتحدة الامريكية لعقدين من الزمن.
ويقوم الجيش الليبي حالياُ باعمار الجزء المدمر من المدينة والذي يمتد لبضع كيلومترات في واجهة البحر في الطريق الرابط بين المطار ووسط بنغازي. الا ان بنغازي حالياً مدينة هادئة وساكنة، لا اثر لمعالم خوف لدى اهلها. اذ تكتض شورعها سيما كورنيش البحر بالعائلات التي تطلب النزهة. ورغم ذلك، اتخذت اللجنة المنظمة اجراءات امنية مشددة لحماية موكب السيارات الذي يقل المؤتمرين من خارج ليبيا.
تعيش بنغازي وشرق ليبيا عزلةً من الاعتراف الدولي. اذ تعترف الامم المتحدة بحكومة غرب ليبيا ومقرها طرابلس العاصمة ورئيسها عبد الحميد الدبيبة. ورغم ذلك، يمكننا ان نعد الحكم في شرق ليبيا مستقراً الى حدْ كبير مع ديمومة وصول الرواتب من البنك المركزي الليبي مقابل السماح بتدفق البترول عبر موانئ شرق ليبيا التي يسيطر عليها الجيش العربي الليبي المدعوم من قبل (مصر- السعودية- الامارات) لدوافع سياسية يقع في مقدمتها كبح جماح الاخوان المسلمين والجماعات الاسلامية التي تعاديها الدول الثلاث. وبالتأكيد، لن تكون روسيا غائبةً عن دعم حفتر على مستوى تقديم الاستشارات العسكرية والامنية لوضع قدم في شرق ليبيا الذي تتخذ القيادة فيه موقفاً متحفظاً من العلاقة مع الدول الغربية.
ويبقى السؤال الذي حاولت ان اكرره كثيراً مع الاصدقاء الليبيين: هل من آمال لتوحيد شرق ليبيا وغربها من جديد؟ والجواب البسيط هو: نعم، بشرط تحقيق اتفاق دولي بين الاطراف التي تحرك وتدير الانقسام من خارج ليبيا!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *