د. طالب محمد كريم
هذا المقال يأتي استكمالا لما كتبته قبل سنوات عن الدكتور علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي البارز (1913-1995). الوردي الذي لا يزال إرثه الفكري محط اهتمام الباحثين والنقاد، يتعرض اليوم، كما في الماضي، لهجوم ممنهج عبر المنصات الإعلامية والاجتماعية. لكن ما نلاحظه مؤخراً أن الاستهداف لم يعد موجها فقط للوردي كشخصية فكرية، بل بات يشمل أغلب الرمزيات الفكرية والثقافية العراقية. وهو استهداف غير أخلاقي، تتواطأ فيه بعض الوسائل الإعلامية التي تروج للتضليل في بيئة تفتقر إلى العمق الثقافي والمعرفي، مما يؤدي إلى إحداث تداعيات سلبية على الوعي الجمعي للمجتمع.
أبرز الإشكاليات التي يطرحها منتقدو الوردي
الإشكالية الأولى: “الوردي يهاجم الدين ويربط بين التدين والفساد.”
حيث يتهم بعض المنتقدين الوردي بأنه هاجم الدين واعتبر أن التدين يؤدي إلى زيادة الفساد في المجتمع.
لكن في حقيقة الأمر أن الوردي لم ينتقد الدين كمنظومة قيم، بل ركز على “التدين الشكلي” الذي يظهر الالتزام الديني ظاهريا بينما تناقض الأفعال المبادئ الدينية الحقيقية. كتابه (وعاظ السلاطين) أبرزَ هذا التناقض بين المظهر والجوهر، مشيرا إلى أن الفساد ينشأ عندما يتم استغلال الدين لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية.
الإشكالية الثانية: “فكر الوردي مجرد إعادة صياغة لنظرية ابن خلدون.”
يدّعي البعض أن الوردي لم يقدم جديدا في علم الاجتماع، بل أعاد صياغة أفكار ابن خلدون.
الإجابة عن هذه الإشكالية هي أن الوردي، تأثره بأن خلدون حقيقة لا جدال فيها، لكنه لم يقتصر على النقل. حيث أنه استخدم أفكار ابن خلدون كقاعدة ليطور مفاهيم جديدة تتعلق بازدواجية الشخصية العراقية والتناشز الاجتماعي. بينما ركز ابن خلدون على دور العصبية في بناء الحضارات، كان الوردي يركز على تحليل التحولات الاجتماعية في مجتمع حديث يعاني صراعا بين البداوة والحضارة.
الإشكالية الثالثة: “الوردي لم يلتزم بالمنهج العلمي الأكاديمي.”
يؤخذ على الوردي بأنه خرج عن المنهج العلمي الصارم واستخدم أسلوبا سرديا.
بينما الرد العلمي هو أن الوردي اعتمد على الملاحظة الاجتماعية، والتحليل النقدي، والاستقراء. وإن أسلوبه السردي كان وسيلة لنقل المعرفة لجمهور واسع، لكنه لم يتخل عن العلمية. كتبه مثل (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) تعتمد على استدلالات علمية قوية.
الإشكالية الرابعة: “الوردي جزء من مشروع تغريبي.”
يتُهم الوردي بمحاولة تغريب المجتمع العراقي.
الوردي لم يكن داعيا للتغريب، بل كان ناقدا للتحولات الاجتماعية في العراق. في طرحه لفكرة (التناشز الاجتماعي)، أشار إلى أن المجتمع العراقي يعيش صراعا بين القيم البدوية والحضارية، مشددا على أهمية الموازنة بين التراث والتحديث.
الأخطر والأشمل ظاهرة الاستهداف: من الوردي إلى الرموز الثقافية الأخرى
ما يواجهه الوردي اليوم ليس حالة فردية، بل هو جزء من ظاهرة واسعة تطال أغلب الرموز الفكرية والثقافية العراقية. في الوقت الذي تتسابق فيه الدول والحضارات على انتزاع جنسيات الرموز الفكرية لها، نجد أن العراق يمارس جلداً لرموزه، ويتركهم عرضة للتشويه.
يمكن ان نستدل بأمثلة عالمية: تسابق الحضارات على الرموز الفكرية
مثلاً: جمال الدين الأفغاني: تعتبره إيران ايرانيا، وتركيا تدعي أنه تركي، وأفغانستان تصر على أنه أفغاني.
كذلك جلال الدين الرومي: التي تنسبه تركيا إليها بقوة، رغم أنه ولد في أفغانستان.
وهناك شخصيات أخرى كثيرة لا نود الوقوف عندها تفادياً لاستطالة المقال، لكنها تظهر كيف أن تسابق الدول على الرموز الفكرية والعلمية يعكس أهمية هؤلاء الأشخاص في تشكيل الهوية الثقافية والحضارية.بينما نجد العراق، بدلا من دعم رموزه الفكرية، يتركها عرضة لهجمات الإعلام والتضليل، مما يسهم في تراجع الوعي الثقافي.
ماهي مسؤولية الاعلام الأخلاقية؟
الإعلام يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عن هذه الظاهرة. حيث انه بدلا من أن يساهم في نشر الوعي حول أهمية الشخصيات الفكرية كعلي الوردي وغيره، يلعب دورا في تضليل الجمهور، وطرح الأفكار بشكل مجتزأ أو مغلوط، في فضاء أغلبه يفتقر للمعرفة والعمق الثقافي.
ما الحل؟
١- تعزيز الثقافة النقدية البناءة:
يجب توجيه النقد بطريقة أكاديمية عبر دراسات وأوراق بحثية بدلا من الاتهامات العشوائية في المنصات الإعلامية.
٢- إبراز دور الرموز الفكرية:
على المثقفين والمؤسسات الثقافية في العراق تسليط الضوء على إنجازات شخصيات كعلي الوردي لدحض الهجمات الموجهة إليهم.
٣- إصلاح الخطاب الإعلامي:
يجب أن يتحول الإعلام من أداة تضليل إلى أداة تثقيف وتعزيز للفكر البناء.
نخلص من المقال إلى ان علي الوردي لم يكن مجرد عالم اجتماع، بل رمزا لثورة فكرية تدعو إلى التحرر من قيود الموروثات السلبية ومواكبة العصر بمنهجية علمية. استهدافه اليوم، إلى جانب استهداف رموز أخرى، يعكس أزمة ثقافية عميقة في العراق. الرد على هذه الهجمات لا يكمن في الدفاع العاطفي، بل في استعادة النقاش الأكاديمي الرصين الذي يضع فكر الوردي وأمثاله في مكانه الصحيح كجزء من إرث حضاري يجب أن يصان.