بقلم : السيد مهند جمال الدين
الحلقة الثالثة : عطش الحسين واصحابه
إن القراءة التاريخية لها منهجان : الأول منهما يتمثل بسرد الاحداث وتسجيل الوقائع والقصص، اما الثاني فانه يعمد الى تفسير الاحداث وتحليلها والربط بينها برؤية قائمة على فهم الاحداث ضمن انساقها، وهذا هو المنهج الأهم ، فحينما تتوافر مجموعة من الروايات التي تثبت واقعة ما، منسجمة فيما بينها بنسب تفضي الى الاطمئنان بوقوعها، بحيث يمكن ترتيب الاثار عليها والافادة منها في القراءات الموضوعية، فحينئذ لا يزعزع الاطمئنان وجودُ روايات اخرى وبنسب قليلة يشك بوجودها، ولكن يدعي المعارض بانها مستحدثة ومضافة الى النصوص الكثيرة.
وعلى هدي ذلك يمكن قراءة مقتل الامام الحسين واصحابه، الذي ذكرته كتب التاريخ المعتبرة، والتي تحظى بمقبولية عند الطرفين، بل اننا نعتمد في المقتل على اهل السنة، اذ لا وجود لكتاب شيعي مختص بعلم التاريخ ، وقد ذكرت في تلك الكتب تفاصيل عديدة مشتملة على صور مؤلمة ومفجعة، وهي كافية لاثبات ما حصل في كربلاء، بما نتداوله اليوم ، ليكون سببا رئيسا في تشكيل الوعي الحسيني بكل تجلياته المعاصرة.
والحقيقة الثابتة بهذه النسبة الكبيرة من الروايات المعتبرة لا يضرها ادعاء وجود روايات اخرى مضافة لها، بحيث يحاول المقتنص لها ايهام المتلقي بضعف الرواية الاصلية وتعميم التشكيك الى كل الروايات، وهو ما يحصل فعلا من بعض المشككين، كنفي عطش الامام الحسين واصحابه، والتشكيك بمرض الامام زين العابدين، والتشكيك بتجلد وصبر السيدة زينب بنت علي، وغيرها من الامور التي حاولوا من خلالها زحزحة الوقائع الحقيقية الواردة في كتب القدماء.
ولكن اذا افترضنا جدلا وجود بعض الماء في معسكر الحسين عشية مقتله، فهل يغير هذا الامر ما اثبته التاريخ من وحشية وبربرية قاتلي الامام، وهل يغير من موازين الحق والباطل، وهل سيمحو من الاذهان صراخ الاطفال والنساء والجرأة على اهل البيت بحرق الخيام واخذ النساء سبايا، بل ان مجرد حز رأس الامام وأخذه هدية الى الطاغية يزيد كافية بأن يعطينا تصورا واضحا عما حصل، ويكشف حقيقة البرابرة الذين قتلوا الامام ، وبسبب ذلك الفعل اتسم تعامل المفجوعين والمحبين لامامهم مع استذكار واقعة كربلاء بهيمنة البعد العاطفي وغلبة مظاهر الألم والحزن لما وقع.
وعلى الرغم من اعتقادنا بما اثبتناه سابقا من ان هذه المفردات القليلة التي تعتمد التشكيك لا تغير من الواقع شيئا، مع ذلك سنجيب في الحلقة هذه عن بعضها، ونبدأ بمفردة عطش الامام واصحابه التي حاول المشككون نفيها، ويمكن الجواب عنها بما يأتي:
1- نقل الطبري في تاريخه (ج4ص311) قال أبو مخنف: ((حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث، ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزدي – وعداده في بجيلة – فقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا فقال حسين : اللهم اقتله عطشا، ولا تغفر له أبدا. قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى بغر، ثم يقيء، ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ غصته يعني نفسه.))

2- نقل الطبري (ج4ص343) ((قال هشام: حدثني عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قال: عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن نمير بسهم، فوقع في فمه)).
3- وقال الطبري (ج4ص444) : ((حدثني من شهد الحسين في عسكره ان حسينا حين غلب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات فقال رجل من بني ابان بن دارم ويلكم حولوا بينه وبين الماء لا تجتمع عليه من شيعته، قال وضرب فرسه واتبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات، فقال الحسين اللهم أظمه.. فوالله ان مكث الرجل الا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى قال القاسم بن الاصبغ لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد له فيه السكر وعساس فيها اللبن وقلال فيها الماء وانه ليقول ويلكم اسقوني قتلني الظمأ فيعطى القلة او العس فيشربه فاذا نزعه من فيه اضطجع الهنيئة ثم يقول ويلكم اسقوني قد قتلني الظمأ قال فما لبث الا يسيرا حتى انقد بطنه انقداد بطن البعير)).
4- ونقل الطبري (ج4ص326) قول الحربن يزيد الرياحي )) يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر اذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة، حتى يأمن ويأمن اهل بيته واصبح في ايديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم، وهاهم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ)).
5- وذكر الخوارزمي في مقتله (ج2ص26))) ورجع علي بن الحسين إلى أبيه فقال : «يا أبت العطش قد قتلني ، وثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة من ماء سبيل أتقوى بها على ألأعداء ، فبكى ألإمام الحسين ، ثم قال : يا بني يعز على محمد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك، يا بني هات لسانك، فأخذ بلسانه فمصه، ودفع إليه خاتمه وقال : «خذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك ، فإني أرجو أنك لا تمسي حتى يسقيك جدك بكأسه ألأوفى شرية لا تظمأ بعدها أبدا)).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *