ليس انشقاق الضابطين الجلاهمة والبوفلاسة، اللّذين برزا في وثائقي الجزيرة «اللاعبون بالنار»، إلا نموذجين من عينات أخرى عديدة للتمرد السنّي المحدود، لكنه معبّر، بالنظر إلى حدوثه في الجيش، أهم مؤسسة ترتكز عليها السلطة الحاكمة. وتعاني المؤسسة العسكرية البحرينية من خلل جوهري، ولا تحظى بتوافق وطني ويزداد وضعها قتامة بانشقاق بعض الضباط، وتنامي نفوذ المجنّسين. ويشكل الجيش حجر الزاوية لأمن الحكم ومستقبله. وعادة ما تُعلي الحكومة في أدبياتها من مقولات القوة، ولا تعتدّ بالوثائق الدستورية التي مزّقتها، مثل تعليقها العمل بدستور دولة البحرين (١٩٧٣) بعد نحو سنتَين من كتابته من قِبل مجلس تأسيسي، وعدم التزامها ببنود ميثاق العمل الوطني، الذي صوّت عليه المواطنون في ٢٠٠١.

ويبدو أن ردّ الحكومة البحرينية على الدولة القطرية بشأن بثّ الوثائقي، لن يكون خارج المألوف، في ضوء تقديرات ترجّح استنفاد التحالف السعودي الإماراتي البحريني معظم أوراقه في صراعه ضد الدوحة. وبالفعل، باستثناء تغريدة لوزير الخارجية منتقداً الدوحة، وصدور عدد من المقالات تعوزها المعلومات وتستند على السباب، التزمت البحرين الصمت إزاء الوثائقي المجلجل. لكن الردّ الذي يبدو معقداً هو ذاك الذي من المحتمل توجيهه إلى بعض الأطراف في الجماعات الموالية، التي برز من بين صفوفها أبطال الفيلم. فالتمرّد السني المحدود، لا بدّ أن يثير قلق الحكم، وافتراض امتناع الحكومة عن القيام بردّ فعل ما، لا ينسجم وفكرة الإعلاء من نظرية «الأمن أولاً».
ويشغل أبناء عائلات المهاجرين إلى قطر مواقع مهمة في القطاع المدني والعسكري. مثلاً، شقيقة ياسر الجلاهمة هي مسؤولة رفيعة في وزارة الصحة. لذا، فإن افتراض التزام الحكومة سيناريو «عفا الله عمّا سلف»، يُصعّب توقّع اقتفائه في هكذا حالات.
لكن تبلور معالم الردّ الحكومي يحتاج إلى بعض الوقت كي يتضح واقعاً في المؤسسة العسكرية خصوصاً، وعلينا مراقبة أسماء العائلات التي من المتوقّع تقليص نفوذها، خصوصاً عائلة الجلاهمة، التي كان أحد أفرادها (يوسف الجلاهمة) وزير شؤون الدفاع، حتى وقت قريب. وقد عيّن يوسف الجلاهمة وزيراً لشؤون الدفاع، في ٢٠١٤، في أعقاب اعتقال «البحريني سابقاً» صلاح الجلاهمة بتهمة الخيانة والتجنس بالجنسية القطرية. وأزيح الجلاهمة من موقعه وزيراً للدفاع، العام الماضي، في تغيير روتيني على الأغلب، وعُين بدلاً منه أحد أبناء عائلة النعيمي، التي يعتقد أن حظوظها تزداد في التراتبية القائمة. ويمكن افتراض أن منصب وزير شؤون الدفاع سيُمنح إلى العوائل القبلية السنية المقرّبة من الحكومة، وقد دشّن هذا النهج في 2014، تزامناً مع المعركة المشتدّة مع الدوحة، في محاولة لتطييب خواطر العائلات المهاجرة، واحتواء شكواها من التهميش، ومساواتها بالمجنسين. إذاً، فإن الجزرة والمكاسب اتّبعت في بعض التعيينات لعدد من العائلات المهاجرة. وفي الوقت ذاته اقتفي نهج العصا والعقاب، كما شاهدناه في محاكمة صلاح الجلاهمة (٢٠١٤).
لكنّ خروج ياسر الجلاهمة والآخرين على قناة «الجزيرة»، قد يعطي دفعة للأصوات الأكثر تشدداً، الداعية إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضدّ المتمردين و«المهاجرين الخونة» وعائلاتهم في البلاد.

خيارات الحكم في التعاطي مع الاستياء القبلي السنّي سيكون طويل المدى

وفي أعقاب بثّ «الجزيرة» للوثائقي، أذاع متحدث باسم وزارة الدفاع البحرينية «أنه وفي عام 2018، تمّ رصد المدعو ياسر عذبي الجلاهمة من خلال الأجهزة الأمنية في قوة دفاع البحرين بقيامه بتجنيد خلايا تجسّسية عنقودية لصالح دولة أجنبية (قطر) حيث اشترك مع متّهمين آخرين من خلال السعي والتخابر في ارتكاب جناية إفشاء أسرار الدفاع عن البلاد، وتسليم هذه المعلومات للأجهزة الاستخباراتية القطرية بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة مملكة البحرين، والإضرار بمركز البلاد الحربي». وكشف المتحدث الرسمي أن الجلاهمة «صدر بحقه في عام 2013 حكم بالسجن لمدة 10سنوات، وذلك لعدم تلبية الدعوة للقوة الاحتياطية بعد أن فرّ إلى قطر وتجنّس بجنسيتها»، وهي معلومات لم تُعلن مسبقاً.
وفي الأساس، تستند علاقة النخبة الموالية بعائلة آل خليفة الحاكمة على مقايضة «الولاء» مقابل الحصول على الأولوية في الشراكة السياسة والاقتصادية. وطالما استثمرت النخبة الموالية الخلاف الخليفي – المعارض لزيادة مساحة نفوذها، وقد تضاعف حجم المكاسب للجماعات الموالية، بعد ٢٠١١، في الوظائف والبعثات والمناقصات والخدمات. واستثمر الحكم الأزمة الناشئة لزيادة حضور المجنّسين، وهو أمر يزعج بعض الجماعات التي ترى أن مكاسبها تتقلّص، كما أنها ترى في التجنيس أضراراً فادحة بهوية البلاد.
وخلاف أنظمة أخرى، تلعب على وتر الطوائف، تكاد تقصي العائلة الحاكمة في البحرين كلّ الفاعلين الشيعة، بما في ذلك العائلات الشيعية الموالية تقليدياً للحكم، والتي تقلّص نفوذها على نحو جليّ منذ اعتلى الملك حمد موقع القرار في ١٩٩٩، وتضاعف ذلك بعد ٢٠١١. (انظر مقالتي، «إعادة هيكلة النخبة الشيعية الموالية»، «الأخبار» في 19 كانون الثاني 2018).
واعتادت الأنظمة الخليجية أن تعوّض عن غياب الديمقراطية بتوازنات تحفظ للمكونات الشعبية ثقلاً سياسياً واقتصادياً. لكن الملك حمد يرى في التوازنات إخلالاً بأرجحيته، وهي نظرة ما كانت متّبعة حين كان رئيس الوزراء خليفة بن سلمان صاحب الكلمة الفصل في البلاد (١٩٧٢ – ١٩٩٩).
ويبدو أن القصر يرى في الاستناد إلى الموالين بمثابة ارتهان، لا يختلف – في جوهره – عن إشراك المعارضين في منظومة الحكم، ولذا تراه يلجأ إلى المجنّسين، وإدخالهم في هياكل المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية، وهو ما يجرّ إلى مزيد من المشاكل.
في ظلّ ذلك، فإن خيارات الحكم في التعاطي مع الاستياء القبلي السني سيكون طويل المدى، ذلك أن العنف الأهوج ضدّ الموالاة، كذاك الذي يطبّق ضد الشيعة والمعارضين قد يعني تفكيك منظومة الحكم القائم. وقد شنّت أطراف صحافية وخطباء مساجد عمليات تخوين علنية ضد المهاجرين إلى قطر، ووصفهم بالخوارج. وهذه اللغة يمكن أن تستثمرها السلطة كمقدّمة لاتّخاذ إجراءات عقابية ضدّ من تراه السلطة متعاطفاً مع قطر. ولا يتّسع المقام هنا لرصد الاتهامات الحكومية المتكررة ضد المواطنين، وربطهم بقطر، وفي حالات معينة تمّ ربط انتقاد سياسات التقاعد الحكومية، على سبيل المثال، ومسائل خدمية، بالعلاقة المشبوهة بالدوحة! إزاء ذلك، لا يمكن إخفاء القلق الموالي من الردّ الحكومي المحتمَل على ظهور منشقّين سُنّة، على قناة تعتبرها الحكومة معادية، والحديث في أمور تُصنّف قَبلياً أسرارَ دولة.
وفي محاولة لجبر خاطر الحكومة، أصدرت العديد من العائلات الموالية، خصوصاً التي وردت أسماء أفراد منها في الفيلم الوثائقي، بيانات تؤكّد الولاء للقيادة السياسية، وتتبرأ من الذين تحدثوا على شاشة «الجزيرة»، وهو إجراء معتاد في البحرين في حالات كهذه. وتعاني بعض الجماعات السنية، خصوصاً تيار «الإخوان المسلمين»، من التضييق في ضوء الضغوط الإماراتية التي تجد في الإسلام السياسي خصماً لدوداً. وقد تمت إحالة عدد من الناشطين الموالين، في السنوات الأخيرة، على التحقيق الأمني، لأسباب سياسية، لكن خيارات الحكومة معقدة في إدارة الملف السني، إذ لا يمكن تعميم العنف ضدها، كما فعلت ضد الشيعة الذين فصل الآلاف منهم من أعمالهم، وزُجّ بالآلاف في السجون.

العنف.. هل من أرضية؟
هل علينا أن نتفاجأ من أن اثنين من أبطال وثائقي «الجزيرة» يؤيدان استخدام العنف ضد المعارضين؟ لم يُظهر الضابط ياسر الجلاهمة الذي قاد الهجوم على دوار اللؤلؤة ندماً إزاء فعلته وهو يحكي مشهد الهجوم الدامي. ولا يعرف فيما إذا كان سيكرر الفعلة لو أوكلت إليه ثانية. ومثل هذا السؤال موجه أيضاً إلى القطاعات العسكرية والأمنية، التي أخشى أن إجابتها ستكون بالإيجاب. كما لم يُظهر السلفي محمد صالح أسفاً إزاء موافقته على قتل معارضين شيعة، ولا يعرف إن كان سينفّذ الطلب لو كُلف به ثانية. وأظن أن نقاشاً يتوجب إطلاقه بمسؤولية وشجاعة وحكمة، يتعلق بموقف النخبة الموالية من العنف ضد الشيعة. فمن المحتمل أن يكون الشخصان المذكوران لا يعبّران عن وجهة نظر النخبة الموالية الفاعلة، تجاه تأييد استخدام القوة ضد المعارضين. لكن هناك احتمال ثانٍ، يبدو مرجحاً، مفاده أن الجلاهمة وصالح ليسا نموذجين شاذين تجاه مشروعية العنف ضد الرأي الآخر، بل إن هذا العنف يجد تبريراته داخل الأوساط النخبوية الموالية، المتناغمة مع الحكم. وقد شاهدنا في ٢٠١١ حماسة من الموالين منقطعة النظير ضد عمليات الاعتقال والقتل والتعذيب وهدم المساجد والفصل من العمل التي طالت القطاعات الشيعية المعارضة وغير المعارضة.

الاصطفافات الجامدة
تقليدياً، يُصنّف الإعلام الدولي الشيعة معارضين، والسُّنة موالين. بيد أن ذلك التوصيف لا يعبّر عن الواقع إبان عقود الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، حين كانت قيادات عروبية ويسارية سُنية تتقدم صفوف المعارضين. التوصيف الطائفي شاع منذ التسعينات على الأقل، حين تحركت انتفاضة تطالب بعودة العمل بدستور ١٩٧٣، ورغم مساهمة الحركة اليسارية، ورموزها السنيين في التنظير للرؤى الدستورية الرفيعة، فإن الشارع السني، عموماً، كان مضاداً للحركة المطلبية التي تحمّس لها الجمهور الشيعي.

تنامى الاستقطاب الطائفي إبّان عهد الملك حمد في ظل منظومة انتخابية

حينها كان «الإخوان المسلمون» متسيدين للمشهد السياسي السني، ولا يعرف عن تيار الإخوان البحريني تأييده للإصلاحات السياسية، منذ نشأته في أربعينات القرن الماضي في البحرين، وينطبق ذلك حتى على أدائه البرلماني (٢٠٠٢ – ٢٠١٩) الرافض لتعديلات دستورية تمنح المؤسسة التشريعية صلاحيات حقيقية. هذا، فضلاً عن الأجواء الإقليمية التي هاجمت إيران في بعديها الفارسي والشيعي، واستثمر ذلك داخلياً لتشتيت الموالين عن جوهر الصراع الدستوري.
وتنامى الاستقطاب الطائفي إبان عهد الملك حمد، في ظلّ دوائر ومنظومة انتخابية، شيدها الحكم وفق أسس طائفية، ضمن نظرة تفتيتية أوسع لإدارة البلاد. وما زاد من الطين بلة تركيز الإسلام الشيعي، الممثل بجمعية «الوفاق»، على الفوز بالمقاعد، في تجربتيه الانتخابيتين في ٢٠٠٦ و٢٠١٠، عوض الحرص على تشكيل قائمة وطنية.
حالياً، يظل القسط الأكبر من القمع والسجون والمنافي والتضييقات الاقتصادية الواسعة، موجه للمعارضين، لكن مختلف الألوان السياسية تشرب من كأس الحكومة الأمني، إذا يتم اتهام الموالين السنة بالولاء إلى قطر، ويتم اتهام المعارضين الشيعة بالولاء لإيران.
بيد أن ذلك لا يغير من تقدير الموالين بأن التغيير السياسي سيعني أفضلية الشيعة أو مساواتهم مع الموالين، في حين بُني البلد – في رأي النخبة الموالية – على أساس هزيمة تاريخية للشيعة في ١٧٨٣، يجدر بهم تجرع سُمها حتى قيام الساعة.
* كاتب وصحافي من البحرين