كتب : عبد الحميد الصائح

“علينا ان ننسى ، وفِي الوقت نفسه علينا ان نتذكر !! انها المهمة الصعبة “، هكذا قال نيلسون مانديلا وهو يوجه شعب جنوب أفريقيا ألذي انتقل من عار التمييز العنصري وانحطاط الانسان في إهانة ابن جنسه الى زمن الحرية والحقوق والليبرالية السياسية .
تذكروا الجرائم التي ارتكبت ضد الأبرياء ، تذكروا التوحش البشري في اعلى صوره .. ثم انسوا ذلك كله !.. لان التذكر كفيل بعدم اعادة ماجرى ، والنسيان ارضية للتسامح والرؤية المشتركة للمستقبل .
فعلا مهمة صعبة .. كيف تنسى وتتذكر في آن واحد ؟
ومالذي يجعل هذه المهمة سهلة وايجابية في المجتمعات التي عانت من العنصرية او الدكتاتورية او الحروب الأهلية ؟
فتش عن العدل .. فتش عن القصاص .. فتش عن القانون الذي ينصف الضحايا ويطمئن المجتمع ويقطع الطريق على اي فرد او جماعة تبيد الجنس البشري تحت أية ذريعة .فالتسامح لايعني تجاهل مرتبكي الانتهاكات والجرائم التي لاتسقط قانونا بالتقادم .والتسامح لايعني تكريم المجرمين والعفو عنهم وفِي رقابهم حقوق عامة ودماء خضراء لم تجف بعد . التسامح ثقافة شعبية في الحكم على المخطئين والمخالفين ، والتسامح عملية فردية يقوم بها الأفراد تنازلا عن حقوقهم ،
غير هذا واجب الدولة القصاص من متسببي الأذى ضدهم.كي تمنع الانتقام والثأر وحل النزاعات خارج سلطة القانون العام .
ولذلك نرى ان المشاريع الإصلاحية وتقاليد وقيم العدالة الانتقالية في اي بلد مضطرب اول ماتشدد عليه هو المحاكمات والمساءلة ثم التعويضات ثم العفو عمن لم يرتكب جرائم فعليه وكان جزءا من السلطة .
مناسبة هذا الكلام ما يدور من لغط ولغو حول المقبرة الجماعية التي اكتشفت حديثا في محافظة المثنى حيث يحاول البعض التهوين من فضاعتها، بحجة انها قديمة ! او ان ضحاياها ليسوا عراقيين ! او انهم معارضون للسلطة وإعدامهم بهذه الطريقة امر طبيعي!!او التلويح براية عفا الله عما سلف!
هذا الدم البارد الذي يروج لذلك ليس سوى بقايا نظام المقابر الجماعية نفسه ، الطبقة التي مجدت الطاغية وزينت له سفك الدماء وتدمير البلاد وشن الحروب العشوائية غير المبررة، هذه الطبقة اليوم لاتدعو للتسامح بهذا التهوين والتسفيه بل تدعو الى تطبيع الجريمة ، اما بالغطاء السياسي او المراهنة على الزمن او – وهذا الأشد تحايلا – لعبة المقارنة بين جريمة تحدث اليوم وتلك الجرائم ، ضعف في الادارة اليوم وادارة الديكتاتور ، اعتمادا على النسيان حيث لايتذكر الناس لاسيما الشباب سوى مفاصل مستقرة من الحياة انذاك، هذا النسيان لن يكون ارضية للتسامح على وفق رؤيا مانديلا، بل اخفاء للجريمة ولغم مؤجل لتفجير العنف مقابل العنف والدم بالدم واستمرار المأساة . لان ثنائية التذكر والنسيان لابد ان تتحقق اطرافها معا .. التذكر فقط يجعل المجتمع متشنجا مرعوبا فاقدا للثقة باي تحول وإصلاح ، والنسيان وحده طعن بالعدالة بل دافع للتكرار لان (من ينسى الخطأ محكوم بتكراره ).. لكنهما حين يتحققا معا ، ينسجا قصة التحول الى الغد بسلام وحكمة ، منطقة لايمكن الوصول اليها الا بالتذكر والنسيان معا ، المهمة الصعبة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *