الكاتب : محمود الهاشمي

مع انطلاق التظاهرات بالسودان في كانون الاول من العام الماضي، تحركت الاقلام وتعالت التصريحات لنصرة المتظاهرين ,باعتبار انه حق شرعي لكل شعب ان يغضب وان ينتصر للثورة ضد الظالم والظالمين، خاضة وان اسباب “الغضب” موجودة في دولة مثل السودان من جوع وفقر وصولاً الى رغيف الخبز الذي وصل سعره الى ستة اضعاف..
الاحزاب المعارضة لملمت اطرافها وانخرطت في مشروع قيادة الجماهير ومنحت لنفسها اسم “الجبهة الوطنية للتغيير” والمكونة من 22 حزباً !! كما حضرت للساحة احزاب تقليدية ايضاً وان لم تصطف مع التجمع بكل حيثياته .
ومع تقادم الايام وارتفاع منسوب الاحتجاجات, تكون جميع الاحزاب قد اجمعت على ضرورة ان تتشكل حكومة مدنية بعد ان مل َّالشعب، القيادات العسكرية وقادة الانقلابات.
المتظاهرون الذين بدؤوا احتجاجهم من المدن البعيدة ثم تقدموا نحو العاصمة “الخرطوم” وضعوا في حساباتهم انهم سوف لايكررون “اخطاء” دول الربيع العربي اي الصراع على السلطة والفوضى و”التدخلات الخارجية” وصولا الى رفض النموذج المصري في عودة “العسكر” لقيادة البلد..
يبدو ان “محرضات” التظاهر واحدة في جميع دول “الربيع العربي” حيث ما ان تنطلق الاحتجاجات اوترتفع الشعارات حتى تتداخل المشاهد ، وتلحظ بكل وضوح مدى التاثير الخارجي، وكلنا يتذكر كيف ان وزيرة خارجية امريكا “هيلاري كلينتون” كانت وسط المتظاهرين بميدان التحرير في مصرتهتف لـ ’لحرية” وكيف كانت النتائج عودة “حكم العسكر” ومجيء “عبد الفتاح السيسي” الذ كان يقيم في الولايات المتحدة الامريكية ليدير دفة الحكم بعد حسني مبارك .
هذا التدخل لم تخل منه الساحة السودانية، وهي الاخطر باعتبار ان السودان من البلدان “الفقيرة” في وارداتها ، اذا كان لديها القليل من النفط، فقد انفصل مع الجنوب وانتهى ..لذا فان اي اضطراب او فوضى سيتحول الى كارثة..
ان حداثة وضعف التجربة لدى الاحزاب السياسية “المعارضة” افقدها حسن ادارة الاحتجاجات ووفر فرصة امام دول الخليج “السعودية والامارات” ومعهم “مصر” للتدخل وصناعة مستقبل السودان وفق “مقاساتهم” التي فرضوها في مصر مثلاً ، دون الحاجة الى التدخل الامريكي المباشر الذي يبدو في شكله العام بعيداً عن الساحة ولكن حضوره قائم عبر “اصدقائه ” من دول الخليج ومصر..حتى لايستفز تدخله الاطراف السياسية المعارضة من الاسلاميين واليساريين.
بعد مجزرة ساحة الاحتجاجات التي راح ضحيتها حسب اخر الاحصائيات اكثر من “مائة” ضحسة القيت (40) من جثثهم في نهر النيل، تقليداً للتنظيمات الارهابية التي مارست مثل هذا العمل في العراق بالقاء جثث الضحايا في نهر دجلة، هذه المجزرة كانت رسالة واضحة الى جميع الاحزاب المعارضة ان لاحكومة مدنية في السودان، وان النموذج المصري هو الخيار وهذا “الاتهام” لم يأت جزافاً فالمجلس العسكري الذي تشكل بعد اعتقال البشير كان قد زار دول الخليج ، وشوهدت العربات المصفحة الاماراتية في شوارع الخرطوم ، بالاضافة الى ان السعودية والامارات تعهدتا بدفع ثلاثة مليارات دولار دعماً للمجلس العسكري..
لاشك ان سبب التدخل الخليجي المصري يعود الى امرين مهمين الاول الاطمئنان من عدم صعود “الاحزاب الاسلامية” وخاصة اخوان المسلمين الذي تكن له مصر والسعودية والامارات كل الكراهية والثاني الاطمئنان على بقاء القوات السودانية البالغ عددها (14) الف عسكرياً في السعودية لمقاتلة الحوثيين، والثالث الخشية ان تنتج الاحتجاجات تجربة ديمقراطية تكون سببا في اثارة الراي العام، لدى اوساط الخليج التي مازالت تحكمها انظمة ديكتاتورية.
السودان “الان” تعيش حالة من “الفوضى” والاعتقالات العشوائية ومصادرة الراي ، والاعتداء على الكوادر الصحية الى الحد الذي حذرت فيه الامم المتحدة من استهداف العاملين في مجال الرعاية الصحية بالسودان، وتعرض عاملات في هذا المجال للاغتصاب، من قبل الاجهزة الامنية بسبب مساعدتهن لجرحى اشتباكات الخرطوم.
ان بطل كل هذه المجازر شخصية يدعى “حميدتي” واسمه محمد حمدان دقلو كان تاجراً للابل، وله علاقات مع القبائل في دارفور التقى الرئيس السابق عمر البشير وعقد معه صفقة لمواجهة التمرد في دارفور فمنحه البشير رتبة فريق اول، وعرف عنه القوة والبأس والبطش ايام تمرد دارفور الذي ذهب ضحيته ثلاثة الاف شخص .بعد الانقلاب على عمر البشير ذاع صيت “حميدتي” باعتبار انه يقود قوات التدخل السريع “الجنجويد” سابقاً.
وعملت هذه القوات ب لحماية المتظاهرين لتكسب ودهم ..لكن هذه القوات هي نفسها التي قامت بفتح النار على المتظاهرين امام مقر القيادة العامة للجيش، ويبدو ان المهمة اوكلت لـ”حميدتي” ان يكون يقود مشروع الحكم العسكري في السودان والسيطرة على الاوضاع.
يبدو ان تدخل “اثيوبيا” لغرض ايجاد فرصة حل بين “قوى التغيير” وبين “المجلس العسكري” لاقت استحسان المعارضة، بعد رفض تام لاي تفاوض بعد مجزرة المتظاهرين، وفعلا حضر الى الخرطوم رئيس وزراء اثيوبيا والتقى القيادي من قوى الحرية والتغيير، محمد عصمت لكن “الغريب” ان قوى الامن اعتقلت محمد عصمت بعد خروجه من الاجتماع، وهذا يعني ان “منهج السيسي” سيكون حاضراً بعد “شيطنة المتظاهرين” وتوجيه التهم لهم، ليساقوا للسجون او القتل !!.
السودان تقف الان على حافة “الانهيار” واذا ما انفرد “المجلس العسكري” بالسلطة، فان تاريخاً من الدماء والقتل والارهاب سيعم البلد ، في وقت يقف العالم متفرجاً على بلد ، لم يطالب سوى بحقوق مشروعة هي (لخبز والحرية.)

وما يخشاه المراقبون أن تنطلق شرارة المعارك بين مختلف الفصائل المسلحة في البلاد، بين قوات الدعم السريع والجيش النظامي الذي عانى فترة طويلة من المحسوبية والتفضيل الذي تمتعت به أجهزة الأمن والجماعات شبه العسكرية مثل تلك التي ينتمي إليها الجنرال حميدتي، وأيضا مثل المليشيات المجهزة تجهيزا جيدا في الأجهزة السرية أو تلك التابعة لحزب المؤتمر الوطني.
وأن كل هذه المخاطر ما كان المجلس العسكري الانتقالي يستطيع القيام بها دون دعم من الرعاة الإقليميين، كالإمارات والسعودية ومصر، الساعية لتوسيع نفوذها والمحاربة لأي نموذج للأنظمة الديمقراطية الليبرالية، ولأي نوع من تأثير الإخوان المسلمين.
وقد يتعلق الأمر أيضا بمحاولة تحكم هذه الدول في بلد غني بالمعادن والمناطق الزراعية الفريدة في أفريقيا إضافة إلى ضمان تأمين أهداف الحليف الأميركي البعيدة في محاربة نفوذ الصين وتأثير روسيا، خاصة أن رد الفعل الأميركي على العنف المرافق لفض اعتصام الخرطوم كان ضعيفا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *