الدكتور ضياء خضير
المقصود بجذع النخلة هو الملعب الذي جرت فيه بطولة الخليج 25 في البصرة عام 2023، وكانت بنفسها بوابةً أمل، وفاتحة خير رأى فيها كثيرٌ من الأشقاء الخليجيين والعرب الآخرين مقدارَ ما يختزنه العراق، وهذه المدينة العريقة من كرم وحب وقدرة على التنظيم والضبط، مثلما رأى فيها العراقيون بكل ألوانهم ومناطقهم الجغرافية والمذهبية والقومية، أنفسَهم موحدين وهم يتابعون هذه الكرة الساحرة في تلك الملاعب والمشاهد الجماهيرية المثيرة، بأفئدتهم وعواطفهم قبل أعينهم.
وهو موضوع رياضي لا يختلف عن ذلك الذي كتب عنه المقدادي بمناسبة تنظيم قطر لبطولة كأس العالم لكرة القدم في العام نفسه، والنجاح الكبير الذي أحرزته هذه الدولة الخليجية الصغيرة، على نحو جعل “عيون وقلوب المليارات من البشر تتوجه نحو دوحة العرب وهي تنظم بطولة العالم لكرة القدم بدقة وحرفية عالية” قد تعجز عنها دول متحضرة وعريقة في هذا الشأن، كما في غيره من الشؤون الأخرى.
وكاظم المقدادي لم يكتب كلماته في هذا الكتاب على جذع النخلة البصرية العريقة وحدَها، بل حاول من خلال هذا العنوان الرمزي أن يكتب في هذه المواضيع وغيرها من مقالات الكتاب على جذع نخلة العراق، الذي تحتل فيه هذه الشجرة موقعا عريقا لا يكاد يتقدم عليه شيءٌ آخر. فكانت المقالات في تنوعها وغناها واختياراتها النوعية وتشخيصها ولقطاتها الذكية، دليلا على ما يختزنه الرجل من ثقافة ووعي ووطنية عراقية تجعل صاحبها يؤجل مرة سفره إلى إسطنبول لدى معرفته بقرب افتتاح شارع المتنبي في بغداد، ويدعو صاحبه الذي دعاه إلى إسطنبول الحضورَ إلى بغداد ليشارك هو الآخر في مناسبة جميلة مثل هذه، بدلا من البقاء في عاصمة الخلافة العثمانية.
هكذا يكتب كاظم المقدادي أو البغدادي عن بغداد وهو فيها، أو وهو بعيد عنها، ويتفقدها في بؤسها ونعيمها، مثلما يتفقد الابنُ أمه، والحبيب حبيبته، والعاشق المتيّم معشوقته. وهو يعتب على صديقه الأثير الصحفي والكاتب القدير حمزة مصطفى، لأنه ظن أن “الهومسك” كان قد استولى على المقدادي في باريس، وغاب عنه في إسطنبول، لأن إقامته في إسطنبول لم تشغله عما يجري في وطنه، ف “العراق كان وما يزال هو الذي عشتُ فيه وسآموت فيه” كما يقول.
وحين يكيل المقدادي المديح إلى (أمين) بغداد، الحريص على مدينته حرصَه على عائلته الموزعة بين شوارعها وبيوتها وساحاتها وأزقتها الضيقة وإطلالة الناس على دجلة الخير فيها، على نحو جعل المدينة “تستفيق على استحياء، وفق منظومة جمالية معرفية متناسقة، تعيد لنا ذاكرتنا البغدادية المفقودة”، فإنما لأن هذا الأمين قد ترك لنا بصمة مدهشة من الألق البغدادي الباذخ”، كما يضيف الكاتب.
واذا كان المقدادي يصف، في موضوع آخر، رسام الكاركتير خضير الحميري بأنه (لاقط صامت)، يسجل الضجيجَ من حوله، فيما يظل هادئا حزينا بسبب سوء وقبح المنظر الذي يراه أمامه، بعينه المجردة مرة، وبعين خياله مراتٍ، وما ينطوي عليه من “حوادث ومفاجآت وآهات ومصايب وطرگاعات” لتحوله يدُه الصناع بعد ذلك إلى خطوط وأشكال دالة، يختلط فيها الضحك بالبكا، على طريقة طيب الذكر أبي الطيب المتنبي، فيمكن ان يوصف الصحفي كاظم المقدادي نفسُه بأنه (لاقط مصوّت) ينشر ما يلتقطه من أصوات ومشاهد وأفكار وفعاليات وأعمال وممارسات وكتابات، على اوسع مدى تصل إليه أدواته المستخدمة في عموده الصحفي وحسابه في الفيس، وكتبه، فضلا عن محاضراته ولقاءاته، وعلاقاته الواسعة في وسطه البغدادي وخارج وسطه البغدادي الذي هو “قرة العين” وموئل الظن واليقين، سواء حينما يكون في باريس، أو بيروت، ثم أخيرا في إسطنبول، التي صارت بالنسبة لكثير من المثقفين والمواطنين العراقيين في السنوات الأخيرة عاصمة أخرى، وملجأ يستعيدون فيه (أصولهم) المكتوبة في (التبعية العثمانية) في عاصمة السلاطين ويتمتعون فيه ببرودة الصيف، هربا من حرارة أصياف بغداد وساساتها وسلاطينها الجدد، وتحكم (الحجي) الذي تدخّل ببركته في كل شيء، بما في ذلك بناءُ المدارس والجامعات الجديدة المتكاثرة هذه الأيام كالفطر السام، من أجل تحويل التعليم – حصن البلد الأخلاقي والتربوي والعلمي والتقني الأول، وجدار صده الأخير، إلى شطارة وتجارة تستثمر فيها الاموال والأراضي والعقارات غير المعروفة الأصول، بطريقة شرعية من أجل تخريب العقول وتحويل العلم والعلماء والمعلم الذي تقف له الأجيال تبجيلا واحتراما إلى كيان فارغ وقصبة مثقوبة ينفح فيها الحجي وغير الحجي من الفاسدين والدخلاء الأميين من روحهم ونظام مدارسهم وجامعاتهم المشكوك فيها منهجًا ونظاما تربويا ناقصًا وكسبا محرما.
وتجربة كاظم المقدادي القصيرة مع جامعة الحجي هذه، وتركه السريع لها لأنه رفض كإنسان حر أن يبيع روحه ومكانه ومكانته العلمية والأكاديمية للشيطان، وفضحه لما يجري فيها في هذا المقال المعنون ب (جامعة الحجي) أو جامعة الحجي (أبو الشربت)، كما يسميها،[الذي هو بالمناسبة ليس حجيّا بعينه ولا بائع شربت واحدا، على الرغم من معرفة القارئ بحجي واحد على الأقل من هؤلاء (الحجاج) الذي يصفهم الكاتب من الذين فاق لقب الحجي المبارك الذي يحملونه في كل مؤسسة من مؤسسات الدولة العراقية كلَّ الألقاب الأخرى]، أقول إن فضحه لهذا النمط من (الجامعات) البعيد في غالبيته العظمى عن الفضيلة العلمية والعملية، من شأنه أن يدقَّ الجرس للتنبيه إلى جانب خطِر من جوانب التخريب المنهجي الموجود، كما يقول الكاتب، في كل العراق، وفي “جامعة لا تعير أهمية لدوام الطلبة بانتظام، ليس لها أدنى اهتمام بالعلم والمعرفة والنظام، ولا تستحق العناوين الكبيرة التي تمنح لها جزافا”.
وبما أن موضوعات الكتاب عديدة، والكتابة فيها وعنها ليست من نوع الكلام الكثير في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، لأنها من نوع الحفر أو النقش على جذع النخلة أو القراطيس الثمينة التي لا ينصل حبرُها بسهولة، فإننا سنقصر الكلام على بعضها، ومنها موضوع البحث عن الزمن ذي الأهمية الخاصة فيما كتبه المؤلف عنه تحت عنوان (المحتقن في تصفير الزمن)، وهو المقال الأول من مقالات الكتاب، واحد من أكثر الموضوعات قراءة وردود أفعال ممن قرأوه وعلقوا عليه.
ومن ذكرهم الكاتب من فلاسفة وعلماء، أو ما ورد عند من علقوا على الموضوع، وهم كثيرون ولهم آراء وملاحظات جدية لا يقل بعضها أهمية عما قاله المؤلف نفسه، على الرغم من اختلافها أو بعد بعضها عن المعنى والغرض المقصود في المقال.
وهو موضوع يستحق بنفسه التوقف عنده بشيء من التأني والتأمل، لأنه يلامس، أكثر من غيره، ربما، واقعَ الحالة العراقية، التي توقف فيها الزمن أو تراجع إلى الوراء، خلافا لما حصل ويحصل لدى شعوب وأمم أخرى قريبة وبعيدة، نهضت مما يشبه العدم، وحققت تقدما وتطورا فاقت به بلدا كالعراق كان قد تقدمها بأشواط في ماضيه القريب والبعيد.
ومحاولة تصفير هذا الزمن من أجل البدء من جديد تشبه لدى المؤلف تصفير العملة النقدية بحذف الأصفار الثلاثة، التي لا يختلف وضعها على اليمين، في عدم جدواها، عن وضعها على الشمال، لأنها غيرُ ذات أهمية لدى المتعاملين بهذه العملة من العراقيين الذين عرفوا الدينار ومضاعفاته الورقية زمنا طويلا دون هذه الأصفار وتعاملوا معه بوضعه القديم ذاك عهودا طويلة. وكأن الزمن وتغير المآل من حال إلى حال كان يحدث على السطح، ولا دور له فيما يحصل في عمق الذات العراقية والذاكرة الجمعية التي لا تريد أن تنفض عنها الغبار وتعاود النهوض من رمادها من جديد مثل عنقاء مغرب.
“فكرت جديا بتصفير الزمن على طريقة تصفير العملة النقدية. ولم لا ، ونحن نعرف أنه ، وفي العملية الحسابية والمالية، ترفع الأصفار الزائدة التي ترعرعت وفرّخت، وتكاثرت على وجه العملة الورقية وأصبحت عائلة من الآباء والأولاد والأحفاد والأجداد، ولم تتوقف بسبب فشل النظريات الاقتصادية في دول غابت عنها العقول الذكية، وجبرت فيها العقول الغبية”
والسؤال الذي يضعه المؤلف عن كيفية تصفير الزمن بعد هذا الكلام هو المهم أو الأكثر أهمية، وهو:
“هل نلغي الثواني والدقائق والساعات، والأيام والأسابيع والشهور والسنوات، أو نجعل من الثانية ساعة، والدقيقة يوما، والساعة أسبوعا، والشهر سنة ؟”
والجواب على هذه الأسئلة الافتراضية المتخيلة لا يأتي على لسان علماء مثل أينشتاين أو ستيفن هوكينج، ولا فلاسفة مثل نيتشة أو جاستون باشلار، ممن يستعرض الكاتب بعض ما توصلوا إليه من واقع زمني غريب، وإنما يمكن لهذا الجواب أن يأتي بطريقة أكثر بساطة وعملية من قلم (متفلسف) عراقي هو المرحوم مدني صالح، الذي يرى أن الحل على سؤال كبير مثل هذا يأتي من عشاق الطرب من مدمني الأرگيلة من الذين فضلوا المعسل بتفاحتين على تفاحة نيوتن، وتفاحة ستيف جوبز، لانهم وجدوا حلا لموضوع تسارع الزمن عند كوكب الشرق أم كلثوم وهي تقول للشمس في إحدى أغنياتها، تعالي تعالي بعد سنة، موش قبل سنة..!
هكذا “بسهولة ومرونة ورحلة ميمونة، ينفتح لنا باب الانتماء إلى النادي الترفيهي (تمبل خانة) لقضاء الوقت بفخر وآمانة، برعاية حزب لاسترخاء الوطني الشعبي الديمقراطي”!
هكذا تصل السخرية والمفارقة إلى أقصاهما بين الكاتب الذي يبقى “محتقنا” لأنه لا يجد حلا لمرورالوقت وكرّ السنوات السريع، وبين مدمني الأركيلة ومتبطلي المقاهي والدوائر الحكومية الفائضين عن الحاجة، وعاشقي أغاني أم كلثوم وجمهور حفلاتها الذي لا يملّ من طلب إعادة مقاطع أغنياتها مرفوقا بالكلمة التي كنا نسمعها منهم باستمرار “دا احنا ورانا حاجة!”، وغير أولئك وهؤلاء من الذين تبدو ساعاتهم مكسورة أو بلا عقارب، ويعانون من فائض الوقت لا من نقصه.
ومحاولة الكاتب معالجة مشكلة الزمن و”تصفيره” بمثال مأخوذ من عالم النقود والحسابات المالية، تنتهي هكذا بالصورة الكوميدية في مقال مدني صالح، وسخرية المؤلف من الانتماء إلى هذا النادي الأليف على غرابته، نادي تمبل خانة العراقي. في حين تظل الأمثلة العلمية المستعرضة، والمستشهد فيها من قبل المؤلف بعلماء ونصوص دينية، وفلاسفة تحدثوا عن الزمن الكوني والنفسي واختلافهما الأساسي تسارعا وتباطؤا، غيرَ ذات جدوى أو فائدة، ما دام الأمر متعلقا هكذا بعملية تفسير وقراءات مأخوذة من هنا وهناك، وليس بعملية تغيير. حتى ليمكن القول بوجود فرق شاسع بين التجارب العملية الخاصة بالزمن الشخصي، وبين الآراء النظرية الخاصة بالزمن الفيزيائي والنفسي، وما يتصل به من أمثلة أدبية شعرية وروائية ألّف فيها الزمن بعدًا أساسيًا من النواحي الفيزيائية والفلسفية والنفسية، جميعا. وهو ما يؤلف موضوعا آخر يحتاج إلى وقفة أخرى غير هذه ، ربما.