منقذ داغر
هو سؤال فلسفي واجتماعي طالما شغل المفكرين واختلفوا حوله. ومثلما هناك جغرافيا للتاريخ فأن للتاريخ جغرافيا تشكله. وكما ان ابن خلدون ومن بعده الوردي جعل الجغرافيا متمثلة بالبداوة هي الصانعة للتاريخ،فأن ارنولد توينبي وول ديورانت جعلا التاريخ هو المتغير المستقل والجغرافيا هي التابع الذي يصنعه التاريخ. ففي الوقت الذي عزا فيه ابن خلدون السلوك الانساتي الفردي والجماعي،وبضمنه السلوك والنزاع السياسي الى عوامل الجغرافية،فأن توينبي وديورانت أشادا بقدرة سكان الانهر،وفي مقدمتهم سكان مابين النهرين على تطويع الجغرافيا وفيضان الانهر لتشييد السدود وتدشين الزراعة وصناعة الحضارة،وبالتالي صناعة التاريخ. وحينما سألت متابعيّ على شبكات التواصل هذا السؤال:هل الجغرافيا تصنع التاريخ أم العكس، جائتني عشرات الاجابات التي تميل الى هذا الرأي او ذاك، مع تفضيل واضح لدور الجغرافيا،وهو ما كان متوقعا بالنسبة لي كباحث اجتماعي عربي بات معتادا على طبيعة العقل العربي ومنهجية تفكيره.فالجغرافيا تبعا لاعتقاد الكثيرين اقدم من التاريخ البشري وبالتالي أجبرت البشر على ان يتكيفوا للبيئات التي استوطنوها ومن ثم نحتت سلوكهم وتاريخهم. أما اصحاب الرأي الاخر فيعتقدون ان التاريخ هو الذي غير الجغرافيا ويستشهدون بما فعله الانسان في الجغرافيا سواء من خلال الابداع الحضاري والتكنولوجي او من خلال الحروب التي غيرت معالم الجغرافيا وحدودها.
أما بالنسبة لي ،وعلى الرغم من اني من اكبر معارضي الثنائيات الفكرية ومن اشد مناصري النظريات متعددة الابعاد(المنهج العلائقي) في تفسير كل الظواهر الانسانية، فأني أجد ميلاًا قليلا في نفسي نحو اعلاء اهمية التاريخ على الجغرافيا مع اعترافي بدور الجغرافيا في تشكيل سلوكنا بخاصة في المنطقة العربية،ومع اعجابي الشديد ايضا بما نظّر له ابن خلدون. لكن سبب ميلي للتاريخ والذي افهمه كنتاج لسلوك فردي وجماعي متفاعل مع البيئة،سببه رفضي للفكر الجبري القائم على الاستسلام لقوة اكبر من الانسان:مرة نسميها القدر وتارة نسميها الحظ وثالثة نسميها البيئة…والخ من المسببات التي جُبل العقل العربي على قبولها لتبرير فشله في صنع التاريخ. وعلى الرغم من ادراكي الى ان هذا العقل الجبري الاستسلامي التبريري له جذور جغرافية واضحة تتمثل في بيئة الصحراء التي انحدر منها العرب،الا اني مؤمن ان سنين التمدن الطويلة التي غادر فيها العربي الصحراء باتت كافية لتغيير فكره وسلوكه الجبري والتبريري. ان البدوي ينشأ في بيئة قاسية تجعله خاضعا لجبروتها مستسلما لظروفها راضيا بسطوتها، بعكس المزارع على الانهر الذي يستطيع التحكم الى حد كبير بزرعه ومعاشه وبالتالي يكون اكثر قدرة على التخطيط لحياته والتحكم في قوته وقوة عياله،وعدم الاكتفاء بدور المفعول به في هذه الحياة.وأنا هنا اشير الى ملاحظة ول ديورانت الذكية في مؤلفه الموسوعي(قصة الحضارة) من ان كل الحضارات كانت هيدروليكية تعتمد على الانهر.
أن الاستسلام للجغرافيا يعني استسلاما للحتمية. لذلك فقد طور العلماء منهج التفكير والادارة الاستراتيجية التي تجاوزت النظرة الموقفية او البيئية التي تفرض على الانسان الاستسلام لمعطيات البيئة. وأن العبارة التي تقول ان التاريخ يكتبه المنتصر هي عبارة صحيحة الى حد بعيد. والانتصار هنا ليس قاصرا على الانتصار العسكري،بل الاهم منه هو الانتصار القيمي والسلوكي والحضاري. ويكفي ان ننظر لكيفية تغيير التكنولوجيا للجغرافيا وتطويعها لخدمة الانسان لنعلم مدى صدقية العبارة. فالانسان الذي يتوقع ان يعاني شحا في المياه او المعادن او سواها من اسباب الحياة سبر الفضاء وبات يخطط لاستعمار الكواكب الاخرى. ولم يعد المطر هو المشكلة الكبرى التي يمكن ان يعاني منها البدوي بعد ان استطاع العلم استنزال المطر. واعلموا ان الخطوة الاولى في التقدم هي عدم الاستسلام للقدر بل تحديه وصنعه. ولكي لا يساء فهمي هنا فأنا لا اتحدث عما هو في نطاق قدرة الخالق،وانما اتحدث عن آفاق قدرة المخلوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *