كتب : مجيد الهماشي
ما جلب انتباهي وحفزني لنشر هذا المقال هو ردة فعل الصحافي البريطاني المخضرم سايمون جينكنز على الفيلم الوثائقي(كان يا ما كان في العراق)التي اعادت قناة بي بي سي عرضه مؤخراً.
استنكار سايمون اللاذع للحرب ومطالبته باستخدام ما احتواه هذا الفيلم من مشاهد وشخوص كوثيقة لملاحقة ومحاسبة المسؤولين عماوصفه “أكبر جريمة حرب في العصر الحديث”.
ارتأيت ترجمة مقال السيد جينكنز ترجمة حرفية ليس بدواعي الأمانةفقط, بل لإتاحة الفرصة للقارئ العراقي للتعرف على وجهة نظر البريطانيين عما اقترفت حكومتهم من فعل شنيع ضد الشعب العراقي.
اقتصرت مداخلاتي على إضاءة المناطق المعتمة خصوصا الحوادث التاريخية ومحاكاة بعض المفاهيم الغربية بما يعادلهاعراقيا.
يكتب جينكنز:
يعد فيلم “كان يا ما كان في العراق” وهو فيلم وثائقي يسجل لغزو العراق عام 2003 من أرقي ما شاهدت على الاطلاق.لم يعتمد المخرج جيمس بلوميل دوي الانفجارات والحرائق والصراخ والدموع كأدلة, بل خاطب الحس والضمير الانساني من خلال عرض هادئ لروايات الأشخاص الذين أصيبوا بصدمات نفسية بسبب النزاع، اشخاص شهدوا فضائع مؤلمة لدولتين عظيمتين تستخدمان الموت والدمار لتحقيق مآرب قادتها السياسية. يبين الفيلم أن أخلاقيات هذه الدول ببسط سيطرتها بالقوة لم تتغير منذ العصور الوسطى. الجثة هي لحم ميت.
واخيرا، سنصغي لضحايا تلك الحرب الشنيعة.
المخرج بلوميل، لم يقترب من أولئك الذين أعطوا الاوامر او الذين عارضوا تلك الحرب، ولكنه تناولها من خلال ذكريات المواطنين العاديين والجنود والصحفيين الذين عاشوا تجربة الحرب. ورغم انهم ليسوا فاعلين في مجرياتها، لكنهم أضحوا جزءا من نتائجها ليتركونا نستخلص استنتاجاتنا الخاصة.
من خلال السرد نتعرف على وليد نصيف، المراهق الحالم المهووس بكل ما هو امريكي، وكيف هتف للغزو.((وليد كان وطنياً ينشد التغيير ولكنه ربما دفع حياته وكثير من اقرانه ثمن ذلك الحلم))
يتوقف بعدها المخرج عند اطلال منزل صحراوي لعائلة معدمة، تم قصفه وقطعواساكنوه اربا بثلاث مروحيات امريكية.
في المقابل نرى جنودًا أمريكان يتسكعون غير مبالين بما يحدث حولهم بينما ينهش اللصوص وسط العاصمة بغداد. يقول أحدهم: إن اوامره أن يحمي وزارة النفط فقط.
بينمانسمع أم قصي، سيدة فاضلة متقدمة في العمر تصف كيف فرحت برحيل صدام ولكن كان عليها بعد ذلك مواجهة العواقب المروعة لذلك الرحيل: حكم داعش.
اما عصام الراوي وهو من المعجبين بصدام, توقع أن الشر وحده سيحل على العراق بعد رحيله – وكان على حق.
هنا يتولى رقيب من قوات المارينز الحكاية، واسمه رودي ريس، يصف كيف قام بنسف سيارة مليئة بالنساء والأطفال وقتلهم جميعا لان السائق فشل في قراءة التعليمات التحذيرية المكتوبة على حاجز الطريق. وعندما سئل عما إذا كانت “الحالة” تستدعي قتل من كان بداخل السيارة يجيب: قبل ان يتناول رشفة اخرى من قدح التاكيلا (نوع من مشروب الويسكي): “يجب أن يكون – الأمر يستحق العناء،” والا ما هو البديل؟ ”
هنا يستذكر السيد جينكنز وصف السير روبرت سميث الذي ساهم في اجتياح العراق للحرب.
(أنه صراع ذو طبيعة سياسية، يتم استغلاله وتحويله الى حرب مستدامة داخل المدن، وليس على جبهات القتال، “حرب تدور رحاها بين الشعوب”. حرب لطالما حذرت منها وتئن من فضاعتها رفوف المكتبات العسكرية في مختلف دول العالم).
زرت بغداد بعد فترة وجيزة من الغزو الامريكي لمقابلة حاكمها المدني بول بريمر، يقول السيد جينكنز، أصبت بالذهول بسبب الفوضى وغياب القانون خارج المنطقة الخضراء المحصنة: لم يكن هناك اي وجود للشرطة. كانت المحلات التجارية قد نهبت، كما هو حال متحف بغداد وعند رؤية حطام الدبابات المحترقة في شوارع المدينة تحول ذهولي الى نوبة من الغثيان اللاإرادي.
يتذكر الشاب أحمد البشير: “كان الامل يملأ قلبي ان العراق سيولد من جديد”. ولكن مع تصاعد وتيرة الدمار وحِدته، عرفت ان “هذا سوف لن يحصل أبدًا، سوف لن يحل الامان أبدًا”.
يستطرد السيد جينكنز: لم تقتصر خطط الغزاة على إسقاط الدكتاتور فحسب,بل قاموا بتدمير المنشئات والمباني العامة من خلال حملة للقصف العنيف سميت “صدمة الرعب والذهول”. اضافة الى حملة منظمة لإرهاب العوائل بعمليات المداهمة في جنح الظلام، مجاميع من الجنود تقوم بتحطيم ابواب غرف نوم النساء بحجة تفتيشها. قاموا بطرد كل البعثيين من وظائفهم، من منتسبي الشرطة إلى الكوادر الجامعية، مما يعني انهيار هيكل قيادة المجتمع المدني بالكامل.
لقد عوقب الشعب العراقي بأكمله بسبب خطايا صدام، انها العصور الوسطى، مرة اخرى.
لن أنسي جواب بريمر عندما سألته “كيف يمكن لك أن تستعيد القانون والنظام بهذه الطريقة؟”، وبمنطق اللامبالاة، هز كتفيه وبسط راحة يديه وتمتم انه يطيع اوامر جهات عليا ولا يرغب الخوض في أيديولوجيات المحافظين الجدد في واشنطن.
الجهات العليا التي أشار اليها بريمر هم قادة مؤسسة بحثية تدعو لبسط النفوذ الأمريكي على العالم بقوة السلاح تحديدا كون الطرق الدبلوماسية هي من اختصاص وزارة الخارجية. تعرف هذه المؤسسة ب (مشروع القرن الأمريكي الجديد، PNAC) وهم نائب الرئيس ديك جيني، وزير الدفاع دونالد رامسفيلد, نائب وزير الدفاع بول ولفوويتز, مستشار وزير الدفاع رتشارد بيرل, مستشارة الامن القومي كونداليزا رايس, مساعد الرئيس لشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا اليوت برامز, مستشار الرئيس للإعلام ديفيد فروم صاحب مقولة (محور الشر – وهم العراق وايران وكوريا الشمالية), مستشار وزير الدفاع روبرت زوليك و زلماي خليل زاد ممثل وزارة الخارجية في تلك المؤسسة ويا للصدفة, كل هؤلاء من اليهود و من منظري الحركة الصهيونية العالمية ما عدا اثنان فقط وهم كونداليزا رايس وزلماي خليل زاد وهؤلاء متطبعين صهيونيا على اية حال.
ويمضي جينكنز نقلا عن الجنرال البريطاني سمث ، لقد تجاهل مخططو هذه الحرب ما يعرفه اي مبتدئ في اي كلية عسكرية: بالنسبة للضحية، الامن دائما له الاسبقية على الحرية، الحياة لها الاولوية على الديمقراطية.
لم يكن غزو العراق أسوأ ما فعلته أمريكا. لكن الفوضى الناتجة كانت أسوأ بكثير، وفي غضون أشهر معدودة تحولت الفوضى الى مراكز لتجنيد مجاميع التمرد.
كان اجتياح العراق سنة 2003 نسخة طبق الأصل من الحملة الصليبية الرابعة، مغامرة عسكرية جامحة سارت بشكل كارثي. مع تسارع الاحداث في ظل حملة أفغانستان عام 2001 كان جورج دبليو بوش يهيأ لمعركة آخري لم يكن العثور على أسلحة الدمار الشامل و “جلب الحرية” للعراقيين الا أعذاراً. والهبة كانت إعلان بوش الشهير “انجزت المهمة” في غضون أسابيع من الغزو. تلك كانت مهمته اما النتائج فستظهر في المستقبل.
في مشاهد الفيلم، يستذكر رجل وكالة المخابرات المركزيةCIA الذي قام باستجواب صدام، ويدعى جون نيكسون، يقول كان صدام فخورا بأنه نجح في تمكين الشيعة والسنة من العيش بسلام. سلامٌ، بالطبع.
سلامٌ فرض بالقوة، وتم الحفاظ عليه من خلال الخوف والوحشية المفرطة. واضاف صدام: “لقد جئتم الآن، وسيصبح العراق ساحة لعب للقوى التي تتطلع إلى بث الكراهية وإطلاق العنان للإرهاب”. وهذا بالفعل ما حدث. عندما قام باراك أوباما بسحب القوات الأمريكية عام 2011، انفرط عقد النظام الفاسد وظهرت هشاشته من خلال التدهور الامني الشامل والذي هيأ الارضية لنشوء أعتى وأخطر تمرد ارهابي شهده العصر الحديث، داعش.
ان لعبة اللوم مع التاريخ لهي فن رائج. إنها تعتمد استنباط البصيرة بعد فوات الأوان، وتعتمد تطبيقات العدسة المشوهة لقيم الحاضر على احداث مضت ولكن، السؤال هو متى تنتهي المسؤولية الحالية ويبدأ التاريخ؟
اعتمد المخرج بلوميل مقابلة الأشخاص الذين لا يمكن تحميلهم المسئولية بشكل منصف. كان الكثيرون على دراية تامة من انهم كانوا طرفاً في خطأ فادح. لكن درجة المسئولية كانت أعلى من مرتباتهم.
المقصود هنا هم كبار ضباط الاحتلال، امريكان كانوا ام انكليز، كل منهم ينفذ مهمته بناء على رتبته مع اشارة خجولة الى عدم رقي رواتبهم الى حجم المسؤولية الجسيمة كما اتضح بعد فوات الاوان، (بالعراقي, وياريت لو كان الراتب بيه خير بعد كل هاي المصايب!)
كذلك هي الحرب رخصة للطاعة العمياء.
الوطنية والولاء ينقلان المسؤولية إلى أعلى الهرم: الرئيس يتحمل اللوم.(وماذا عن الذين ينفذون الاومر ألا يتحملون المسؤولية؟)
اي بالعراقي،(ذبها براس عالم واطلع منها سالم)!
لم يكن لدى بريطانيا سببا للمشاركة في الغزو الامريكي للعراق لتكون طرفا في هذا الفشل الذريع. كان النقاش الواسع النطاق في ذلك الوقت متشككًا جدا بنية رئيس الوزراء توني بلير. ولكن بما ان الحياد البريطاني سوف لن يوقف بوش من المضي في مساره، كان بمقدور بريطانيا ان تحرمه من شرعية “تشكيل التحالف”. الحكمة التقليدية هي إلقاء اللوم على توني بلير.
من المؤكد أن بلير كان المحرك الأساسي، لكنه كان اذكى من ان يستخدم سلطته التنفيذية لفرض قرار الحرب كونه ضمن الموافقة بأغلبية ساحقة سوى استقالة ثلاث وزراء فقط.
في اذار 2003، صوت مجلس العموم على قرار الحرب بموافقة 412 نائبا من كلا الحزبين، العمال والمحافظين. كانوا يعرفون أن الأسباب مزيفة، وأن صدام لم يهدد بريطانيا “بشكل وشيك”. لقد جرفتهم مشاعر الحرب.
أثبت ذلك القرار ان الضوابط الديمقراطية التي وضعت كصمام امان ضد اي استهتار محتمل للسلطة التنفيذية لا قيمة لها. لكن العزاء الوحيد هو أن نواب مجلس العموم تعلموا درسًا واحدًا من تلك المأساة وذلك برفض التصويت على شن هجوم على سوريا عندما طلب ذلك ديفيد كاميرون عام 2013.
يتابع كاتب الغارديان: يعيد هذا الفيلم الى الاذهان حجم الكارثة الحقيقي.
كانت تكلفة تلك الحرب العبثية ما يقدر بنحو ربع مليون عراقي دفعوا حياتهم ثمنا لحرية زائفة. لقد زعزعت تلك الحرب استقرار المنطقة وساهمت بلا شك في انهيار النظام في سوريا ولم تفعل شيئا لوقف الإرهاب في بريطانيا أو أي مكان آخر، لا بل العكس هو الصحيح. كما استهلك ذلك الفشل الذريع حوالي 3 تريليون دولار.ماذا يمكن أن تفعله تلك التريليونات للخير في العالم أمر لا يمكن تصوره.
خلاصة القول، إن حرب العراق تستحق أن تُصنَّف من جرائم الحرب الأكبر والأكثر ظلما وعدوانا في عصرنا هذا. أنني لست ذو طبيعة عقابية، لكنني أجد أنه من غير العادي أن الأخطاء والأهوال الموضحة في هذا الفيلم الوثائقي يجب أن تمر بلا عقاب. أما بالنسبة لأولئك الذين “كانوا يطيعون الأوامر فقط”، فإن ما حصل في أوروبا في الثلاثينات من القرن الماضي كانت بالتأكيد تحذيرًا بما فيه الكفاية. إن الحرب مروعة للغاية – ومغرية للغاية لاي زعيم شعوبي – لما تنطوي عليه من مخاطر وأسباب للتهرب من الضوابط الديمقراطية وبعد مرور أكثر من 17 عامًا، سيتعين علينا اعتماد هذا الفيلم لإحقاق الحق والقيام بما هو مطلوب.