كتب : علي المؤمن

ذكرنا في مقالات سابقة أن استحداث مصطلحات ومفاهيم ومواقع كالمرجع الأعلم أو المرجع الأعلى أو المرجع المتصدي أو سيد الطائفة أو زعيم الحوزة؛ إنما هي اجراءات تدبيرية تنظيمية تنطلق من إشكالية حقيقية، تتمثل في كون جميع الفقهاء حججاً على الناس، في زمن واحد ومكان واحد، في المجالات التي حددتها أحاديث الأئمة. أي أن لكل فقيه حجية الفتوى والحسبة والقضاء والحقوق الشرعية. وتطبيقات هذه الحجية تعني ولاية لجميع الفقهاء على إدارة المجتمع الشيعي دينياً وجزائياً واجتماعياً في الزمان والمكان نفسيهما. من هنا؛ سيكون وضع نظم وحدود من شأنها تأكيد الحيلولة دون حصول التعارض والتزاحم اللذين يؤديان إلى تشتت كلمة الأمة وفرقتها؛ ضرورة لا بد منها في كل زمن.

وليست هذه الإشكالية وليدة اليوم؛ بل هي قديمة؛ قِدم المنظومة الدينية الإجتماعية الشيعية. وقد كان في كثير من المفاصل التاريخية تجاذبات تعيق الوحدة المجتمعية. و كلما كان الواقع السياسي رخواً ومتحركاً؛ كان التفرق والشد يبرز بشكل أكبر. و لعل نموذج انعكاسات ثورة المشروطة على المجتمعين الإيراني والعراقي بعد العام 1906؛ خير دليل على عمق هذه الإشكالية. ففي النجف انقسم المجتمع الى قسمين متعارضين بشدة؛ بسبب انقسام المرجعية العليا بين الشيخ الآخوند الخراساني والسيد كاظم اليزدي؛ فكان جزء من جماعة “الشمرت” النجفية ( تحالف طرفي المشراق والبراق) يؤيد الآخوند الخراساني فقيه المشروطة، وجزء من جماعة “الزكرت” (تحالف طرفي العمارة و الحويش) يؤيد السيد اليزدي فقيه المشروعة ( أو المستبدة كما كان يطلق عليها الخصوم خطأً). وبلغ الأمر مبلغ الصراع المسلح والتفسيق المتبادل بين التحالفين. وقسّم هذا التقسيم المجتمع الإيراني بشدة أكبر؛ فكان الشيخ فضل الله النوري قائد المشروعة في إيران مدعوماً من السيد كاظم اليزدي، وكان السيد عبد الله البهبهاني الغريفي قائد المشروطة مدعوماً من الآخوند الخراساني. وانتهى الصراع بين الفريقين بإعدام الشيخ عبد الله النوري في طهران، واغتيال السيد عبد الله البهبهاني الغريفي.

وفي المقابل هناك مشاهد معاكسة من التعاون بين المراجع، والإذعان لزعامة أحدهم ومرجعيته العليا، وهي الأغلب. وعلى هذا نماذج كثيرة جداً؛ لعل أبرزها مايعيشه الشيعة في عصرهم الحاضر؛ من تعاون وتفاهم كبيرين بين مرجعياتهم؛ عدا عن تحركات بعض الخطوط الخاصة.

ما أريد قوله أن الأعراف في الحوزات العلمية تنفع أحياناً في تنظيم موضوع تعدد المرجعيات ووحدة القرار العام، والمتمثل بتنازل باقي المراجع عن ولاياتهم وصلاحياتهم في مجال الشأن العام لمصلحة المرجع المتصدي؛ سواء تمثل ذلك في المرجعية العليا كما في النجف الأشرف، أو ولاية الفقيه في قم. وهو الحاصل الآن حيال مرجعية السيد علي السيستاني و ولاية السيد علي الخامنئي. ولكن هذا العرف لايطبق دائماً ولا يلتزم به بعض المراجع؛ مايؤدي الى تشتت النظام العام أحياناً. وهو ماظلت تستغله الأنظمة العراقية السابقة لتمزيق الواقع الشيعي، كما لاتزال تستغله الأجهزة المخابراتية والسياسية للأنظمة المعادية. وبالتالي؛ سيكون لزاماً مأسسة المنظومة المرجعية للحيلولة دون حصول هذا اللون من الشقاق المجتمعي.

ومن هذه الآليات التي يمكن استحداثها؛ مؤسسة مرجعية استشارية عليا تحت اسم “مجلس الحكماء” أو ” مجلس أهل الخبرة” أو ” مجلس أهل الحل والعقد” أو ” مجلس كبار العلماء”، وهم المجتهدون العدول المقبولون شعبياً، والمتفق على اجتهادهم وعدالتهم وفق معايير مؤسسية يتم تثبيتها من لجان تخصصية، ويقرها المرجع الأعلى والمراجع الأخرون؛ لتكون حجة على الجميع. وتناط بهذا المجلس ثلاث مهام:

1- اختيار المراجع الحائزين على شروط التقليد، وطرحهم للأمة؛ لكي يكون تقليدهم مبرءاً للذمة لمن يريد تقليد أحدهم.

2- اختيار المرجع الأعلى الجديد من بين المراجع الحائزين على شروط التقليد، بعد رحيل المرجع الأعلى السابق، أو فقدانه أحد شروط التقليد، سواء مايرتبط بالأعلمية أو العدالة أو كفاءة إدارة الشأن العام.

3- تقديم المشورة للمرجع الأعلى في مختلف شؤون المرجعية، لاسيما ما يرتبط بشؤون الحوزة والشأن العلمي والشأن المالي والشأن العام وغيرها.

و لعل أول من طرح شرط المقبولية العامة في الولي الفقيه هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الذي يعبّر عن طبيعة ولاية الامة و ولاية الفقيه وطريقة تكاملهما؛ من خلال تسمية الأولى بـ«خلافة الأمة» باعتبار الخلافة الممنوحة للإنسان على الأرض، والثانية «شهادة الفقيه»؛ باعتبار نيابته العامة للإمام المعصوم. ومن خلال اختيار الأمة لفقيه بعينه سيلتقي خط الخلافة بخط الشهادة، فيكون هذا الفقيه حينها مجسّداً للخطين. ويشترط الشهيد الصدر في الولي الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً، ومرشحاً من قبل مجلس المرجعية (أهل الحل والعقد)، ومنتخَباً من قبل الأمة (في حال تعدد المرجعيات المتكافئة المرشحة). وتقف هذه النظرية على عدد من الأسس الشرعية:
1 – لا ولاية بالأصل إلا للَّه تعالى.
2 – النيابة العامة عن الإمام المعصوم هي للمجتهد المطلق العادل الكفوء، وهي مصدر الولاية الممنوحة للفقيه، بمعنى القيمومة على تطبيق الشريعة، وحق الإشراف الكامل.
3 – الخلافة العامة للأمة على أساس قاعدة الشورى، هي التي تمنحها حق ممارسة أمورها بنفسها ضمن إطار الإشراف والرقابة الدستورية من قبل نائب الإمام.
4 – فكرة أهل الحل والعقد، التي طبقت في الحياة الإسلامية، والتي تؤدي بتطويرها على النحو الذي ينسجم مع قاعدة الشورى وقاعدة الإشراف الدستوري من قبل نائب الإمام إلى افتراض مجلس يمثل الأمة وينبثق عنه بالانتخاب.
والحقيقة أن القول الظاهر لفقهاء الإمامية السلف يتمحور حول نظرية ولاية الفقيه المنصوب من قبل الإمام المعصوم، وفيها لا يكون لانتخاب الناس أثر في تعيينه. ويجمع هؤلاء الفقهاء بين نظرية ولاية الفقيه ونظرية الشورى بنحو الطولية، باعتبار أنهما غير متعارضين، بل تكمل إحداهما الأخرى، ويخلصون إلى القول: إن النصب المباشر للولاية، هو من قبل الله تعالى، كما في حالة النبي والأئمة الاثني عشر، ولا تنعقد الإمامة لغير المنصوب إلهياً مع وجوده والتمكن منه. وفي حالة (غيابه) كان للأمة حق الاختيار، ولكن ليس الاختيار المطلق، بل لمن وجدت فيه الشرائط والمواصفات المعتبرة، وهنا تنعقد الإمامة للفقيه بانتخاب الأمة له.

وإذا كان السيد الصدر يقرن الإنتخاب العام بتوافر شروطه الموضوعية، وفي مقدمها وجود الدولة الإسلامية الشيعية المراد انتخاب مجلس أهل الخبرة من الناس انتخاباً مباشراً وفق الصيغ العصرية المتعارفة، والذي سيقوم بدوره بانتخاب الفقيه؛ فإن هناك صيغ أخرى يمكن من خلالها إحراز المقبولية العامة لمجلس أهل الخبرة الذي يتولى فرز المرجع الأعلى، في ظل الدول التي لاتسمح بإقامة هذه الصيغ من الإنتخابات.

وبذلك يتم ضمان عدم حصول تعارض وتزاحم بين الفقهاء، واقتصار فعلية ولاية الحسبة وحفظ النظام على المرجع الأعلى المتصدي للشأن العام، وضبط حركة المال الشرعي، وبلورة القرارات المصيرية ذات العلاقة بإدارة الحوزة العلمية ومؤسساتها، وذات العلاقة بالشأن العام وبالدولة. وحينها كذلك يكون صدور الحكم الشرعي ذو العلاقة بالشأن العام منحصراً بالمرجع الأعلى. وليس المقصود هنا الفتوى بل الحكم. إذ أن الفتوى هي ما يتوصل إليه الفقيه من خلال أدلة الاستنباط، وهي ملزمة لمقلّديه فقط. أما الحكم العام فإنه نافذ على غير مقلّدي هذا المرجع، وهو ما يطلق عليه الأحكام الولائية العامة و الأحكام الثانوية في الشأن العام، وهو غير الحكم الخاص المتعلق بموضوع فردي، الذي لايشكل صدوره تزاحماً مع حكم المرجع المتصدي للشأن العام.

إن الأفكار التي تدور حول المرجعية، سواء المرجعية الرشيدة، أو المرجعية الموضوعية، أو المرجعية المؤسسة؛ ينبغي بلورتها في صيغة معيّنة تستبطن في نضجها تجربة المرجعية على طول التاريخ، وتراعي الواقع بكل تفاصيله. وهذا الجانب هو من القضايا الأساسية التي تواجه النظام الديني الإجتماعي الشيعي في الوقت الحاضر. فتلك الأفكار والنظريات لا يمكن جرّها بتفاصيلها إلى واقع التطبيق؛ لأن الكثير من المهام الموكلة – في هذه النظريات – إلى المرجعية هي مهام المرجع الحاكم أو المرجع المتصدي، باستثناء المسائل التخصصية المرتبطة – مثلاً – بمناهح الدراسة في الحوزة العلمية.

وحيث أن أكثر هذه المفردات يمثّل عناصر تدبيرية مستجدة باتت الحاجة اليها تبرز بمرور الزمان، و لم يعالجها الفقه من قبل، فإنها بحاجة إلى حركة اجتهادية تجديدية تدبيرية واسعة النطاق، لتبيين تفاصيل النظرية وأساليب تنفيذها. وهنا تتفاعل العملية الاجتهادية مع حركة الواقع، على اعتبار أن تلك التفاصيل خاضعة للتطور، حسب متطلبات العصر.

 

By Miimo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *