كتب : صادق الطائي
لا حاجة بنا الى تعريف معنى الشتم او السباب، فهي مفردات نعرفها جيدا ونعرف ما تعني، وربما ‏مارسناها في حياتنا اليومية نتيجة ضغوط الحياة التي نحسها لنعبر عن غضبنا، لكن تجدر الاشارة الى ‏إن مدلولاتها وإستخداماتها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتتغير سياقاتها بتغير أنماط وسياقات ‏الثقافة السائدة في المجتمعات، وربما يطرح السؤال، وهل للشتائم أهمية لنتناولها بقراءة اجتماعية؟ ‏والجواب، نعم بكل تأكيد، لان الشتم والمفردات المستخدمة فيه والصور المخلقة من تركيب أكثر من ‏مدلول هي جزء أساس من سياقات ثقافة المجتمع الذي نسعى لفهمه.‏
الشتم ربما كان قديما قديم الحياة الاجتماعية للانسان، فما ان يجتمع انسان واخر، وبالضرورة ستنشب ‏الخلافات بينهما سنعثر حينها على منظومة الشتم، لانها أحد الطرق المعبرة عن وجهة نظرنا تجاه الاخر ‏المختلف معه، قد تكون وجهة النظر هذه غير صحيحة او آنية بسبب الغضب الذي نشعر به، لكنها في ‏المحصلة النهائية جزء من التفاعل في حالة إنسانية ما، لذلك نجد الاديان والفلسفات الاخلاقية تحاول أن ‏تحد من ظاهرة الشتم او ان تقننها، حتى وصلنا الى زمن القوانين الوضعية التي تجرم هذا السلوك ‏تحت بند جنحة (السب والقذف) وتضع مرتكبها تحت طائلة القانون وقد ينال جزائه سجنا او غرامة.‏
إن طبيعة الشتم والشتائم تختلف كما اشرنا باختلاف الزمان، وقد يعتقد البعض ان مجتمعات بشرية في ‏زمن ما كانت شبه ملائكية او مثالية السلوك، مثال ذلك مجتمع الصحابة إبان حياة الرسول (ص)، لكن ‏دراسة كتب السيرة النبوية تبين لنا، إن المجتمع آنذاك كان مجتمعا إنسانيا طبيعيا فيه الخلافات ‏والنزاعات والتشاتم والسباب، وعند حدوث مشكلة ما، كان المتنازعان يرجعان الى الرسول (ص) لحل ‏الخصومة او الرجوع الى الخلفاء بعد عصر الرسول (ص). وقد خصص الاستاذ عبود الشالجي الجزء ‏الاول ‏من كتابه (موسوعة العذاب – الصادر في سبعة اجزاء) للشتم والشتائم، وبين أنواع الشتائم إذ ‏كانت تنصب عادة على الشكل او العاهة الجسدية او ذكر الابوين بسوء او المعايرة بالاصل او المهنة ‏او غيرها من طرق الشتم التي تسعى للنيل من الاخر المختلف معه، كما إن خليل عبد الكريم قد تناول ‏الامر في كتابه (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة ) في سفره الثاني المعنون (الصحابة والصحابة) ‏،الذي تتبع فيه النزاعات والتشاتم الذي كان يحصل في مجتمع دولة الرسول (ص) الذي هو في النهاية ‏مجتمع انساني فيه السيء والجيد من السلوك.‏
‏ كما يمكن أن تتحول الشتائم الى سياق سياسي ضمن الصراع على السلطة، وهذا ما حصل في سن ‏سنة شتم الخليفة الرابع علي بن ابي طالب (رض) من على المنابر طوال حقبة الدولة الاموية(41 هـ – ‏‏132هـ)، حتى أصبح شتم الخليفة الرابع من شروط الخطابة من على منابر المساجد طوال عهد الدولة ‏الاموية، بأستثناء زمن الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز الذي اوقف العمل بهذه السنة ومنعها بقوة ‏، لكن بعد وفاته عاد الامر الى ما كان عليه حتى سقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية .‏
كما ان المكان، أي الانتقال من مدينة الى اخرى او من بلد الى أخر، يعني تغيرا في نمط وسياق ‏الشتائم، فما قد يقال على انه مدح، قد يفهم في مكان أخر على انه ذم او شتيمة، مثال ذلك ان شتم ‏الانسان في مجتمعاتنا بنسبته الى انه ابن حيوان ما ، كالكلب او الحمار او الخنزير، يعد من الشتائم ‏المعروفة والشائعة، والشتيمة هنا قائمة على التقليل من قيمة المشتوم بانه ليس إبن بشر مثل الاخرين، ‏بينما لاتجد هذا الامر في الحضارة الغربية المعاصرة، ولايمكن ان يعتبر شخص ما ان الكلب او ‏وصف الشخص بانه ابن كلب شتيمة، وذلك لقيمة هذا الحيوان المدلل في هذه المجتمعات، وقد يقال إن ‏هنالك شتيمة شائعة جدا في الثقافة الانكلوسكسونية، وهي شتيمة الشخص بوصفه ابن كلبة الشارع‎ ‎‏(‏Bitch‏ )، وهنا الامر مختلف، فالشتم ينصب على سلوك هذه الحيوانة، لانها متعددة العلاقات الجنسية ‏وليس لكونها مجرد كلبة، وهنالك فرق في الامر.‏
إن ألفاظ السباب والشتم في مجتمعاتنا فيها الكثير من المفارقة، إذ ان الشتم لاينصب على الشخص ‏المعني بقدرإنصبابه على عائلته، وذلك لأهمية البنى الاجتماعية لدينا، وغياب ثقافة فردية الفرد في ‏مجتمعاتنا، فنجد ان الشتائم لدينا عادة ما تنصب على السلوك الجنسي لإناث عائلة المشتوم مثل الأم ‏والأخت والزوجة، لأن المرأة في العائلة ما زالت تمثل لدينا مفهوم (العورة)، وهو مفهو يقترب من ‏التقديس، حتى ان بعض مجتمعاتنا تعتبر ذكر اسم الأم فقط عورة او شتيمة، وإن تناول (العرض) ‏بسوء او خدش حيائه بوصمه بسلوك جنسي أمر مرفوض، بل يعد من الامور الخطيرة. بينما تجد الفرد ‏الغربي المعتز بفرديته عندما يتشاتم مع الاخر نجد الصفات تنصب على الفرد حصرا، مثال ذلك ‏وصفه بالكذاب او المحتال او السارق او القاتل او السافل … الخ، بينما ما زلنا في مجتمعاتنا لا نشتم ‏المخالف بما فيه، بل نتجه الى عائلته مباشرة فنصفه بأنه ابن غير شرعي، أو إن أمه او أخته منفلتة ‏السلوك الجنسي، وهنا تروى مفارقة حدثت على انها نكتة ، إذ تشاتم عربي مع غربي، فقال له العربي ‏في سورة غضبه اني سافعل باختك كذا وكذا – وهي صيغة مجازية في مخيالنا الشعبي تعني الانتقام ‏من الاخر باهانة شرفه – فما كان من الغربي الا أن أجابه بهدوء ؛اذا كنتما قد إتفقتما على ذلك انت ‏واختي فما المشكلة ؟!!‏
وقد ينتقل الشتم من صيغته الفردية ومن نطاق الخصومة بين اثنين الا ما يعرف اجتماعيا بالوصم، إذ ‏تطلق الشتيمة على الاخر المخالف باجماع الانتماء او الاتجاه الفكري او السياسي او القومي او الديني، ‏ومن ذلك ما انتشر من (فتاوى الدعاة الجدد ) التي انتشرت في الفضاء الافتراضي، مثل مقولة، أو حكم ‏نشره شيخ على تويتر ينص على إن؛( الملحدة وبحسب دراسة علمية لابد ان تكون قد تعرضت ‏للاغتصاب او التحرش الجنسي في طفولتها في محيطها العائلي)!! وهنا نستطيع ان نقرأ بين سطور ‏الاتهام، الشتيمة الواضحة التي يوجهها هذا الشيخ للملحدين، متهما إياهم بان نسائهم مغتصبات، أو ‏إنهم يمارسون زنى المحارم، كما إنك تجد لدى جمع غفير ممن يدعون الايمان، وقد إستقر في عقولهم ‏إن العلمانين شواذ جنسيا، أو إنهم يدعون الى الشذوذ الجنسي، في إشارة الى حرية السلوك الجنسي ‏المثلي المعترف به في العديد من المجتمعات الغربية.‏
‏ كما ان الوصم قد يتجه الى نحلة او طائفة كاملة او دين او قومية، وذلك بإطلاق شتائم مثل؛ وصم ‏الشيعة من مخالفيهم بأنهم “اولاد متعة”، فيرد الشيعة على مخالفيهم، من السنة مثلا، بأنهم “اولاد نكاح ‏الجهاد”، وهكذا، وهنا يتجلى تسلط السلوك الجنسي في مخيالنا الشعبي على بقية سياقات السوك ‏الاجتماعي الاخرى، فالمختلف يهاجم الاخر بإنتمائه الى كتلة اجتماعية كبيرة جدا ويتهمها بسلوك ‏جنسي مشين.‏
كما اننا قد نجد إحتفاءً إجتماعيا بالشتام، في المجتمع التقليدي تحديدا، وهو ما قد يكون متحدرا من قيمة ‏‏(شاعر القبيلة) في تراثنا، الذي كان يفاخر بقبيلته ويشتم اعدائها، وكلما كان مفوها ويمتلك القدرة على ‏القيام بذلك كانت قيمته تعلو اكثر في مجتمعه، وهذا ما قد نلحظه في سلوكيات قد تكون انقرضت في ‏مجتمعاتنا الحديثة، لكنها كانت موجودة في مجتمعاتنا التقليدية مثال (الرداحة او الشرشوحة وجمعها ‏شراشيح) في الحارة الشعبية المصرية القديمة، أو القرج (وهي المرأة سليطة اللسان المنفلتة السلوك) ‏في أزقة بغداد القديمة، التي يتحاشاها الاخرون لأنها شتامة لا تبارى في اطلاق الشتائم، حتى قيل في ‏المثل الشعبي العراقي (القرج خاتونة المحلة) اي انها سيدة المحلة او الحارة التي لا يشاكسها أحد، ‏ويهابها الجميع ويتجنبون لسانها السليط.‏
‏ لذلك يمثل الشتم والشتائم معينا مهما يساعدنا على فهم المخفي من سلوكنا، وأنساق ثقافتنا التي قد ‏تتخفى تحت العديد من أغلفة السلوك المهذب التي نتحلى بها، لكن شتائمنا سرعان ما تظهر في ساعة ‏غضبنا لتنبئنا بالمخفي من جبل الجليد من مكوننا الثقافي. ‏
‏ ‏

By Miimo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *