علاء الخطيب
ملاحظة : ” هذه ليست مقالة، بقدر ما هي عرض للحقائق وبالادلة ”
الجدل المفتعل حول اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله يكشف عن حملة تضليل ممنهجة، يقودهاعدد من السياسيين الذين احترفوا الكذب والخداع، مستغلّين جهل بعض المواطنين بالحقائقالدستورية والقانونية، ومتخذين من الملف أداة لتصفية حسابات شخصية أو وسيلة لإثارة الرأي العامفي سياق انتخابي بحت. هؤلاء لا يدافعون عن السيادة كما يدّعون، بل يوظفون الأكاذيب وقصص الخياللتأجيج الشارع وتشويه المؤسسات، في وقتٍ تلاحقهم فيه ملفات قضائية خطيرة تكشف حقيقتهموتُظهر أن أغلبهم من الخارجين على القانون.
حرية التعبير عن الرأي التي كفلها الدستور العراقي لا تمنح الحق بالتضليل المتعمّد أو خداع الجمهوربمعلومات ملفقة. فحين يتحول الرأي إلى كذب ممنهج، أو إساءة مقصودة، أو تهديد للأمن العام، فإنذلك يدخل ضمن الجرائم المعاقب عليها قانونًا، سواء كانت سبًّا أو قذفًا أو تحريضًا أو نشرًا متعمّدًالمعلومات كاذبة بقصد التشويش على المجتمع وخلق الفوضى. وإذا ما دققنا في هوية من يتصدّى اليوململف خور عبد الله، نجد أن أغلبهم إما مدانون بأحكام باتّة، أو متهمون في قضايا فساد، أو يخضعونلتحقيقات قضائية جارية، في تفسير واضح للأسباب الحقيقية الكامنة خلف إثارتهم لهذه المسرحيةالإعلامية المفضوحة.
من أبرز هؤلاء، وائل عبد اللطيف، الذي شكّل مع أبنائه نموذجًا لعائلة خارجة على القانون في محافظةالبصرة. فالأب، الذي سبق طرده من القضاء قبل عام ٢٠٠٣ بسبب قضايا فساد عندما كان يعمل قاضيًا فيمحافظة ذي قار، صدر بحقه حكم بات عن محكمة جنح الرصافة في ٢٠٢١، في الدعوى المرقمة (١٠/ج)،بتهمة تضليل الرأي العام بحق المشتكي هادي العامري، ثم صدر حكم آخر في ٢٠٢٤ في الدعوى المرقمة(٢٣٩/ج) عن التهمة ذاتها بحق المشتكي محافظ البصرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن وائل عبد اللطيفملاحق بدعوى عن هدر المال العام لدى محكمة تحقيق قضايا النزاهة في البصرة، في القضية المرقمة(٩٤/خ٣) في ٢٠٢٣، عن مخالفات ارتكبها عندما كان محافظًا للبصرة. كما أن هناك شكوى أخرى من“الحق العام” بحقه وبحق أبنائه محمد وعلي، تتعلق بقيامه بفتح فرع غير قانوني لمكتب إسمنت أمقصر في البصرة، واستحصال رسوم من المواطنين دون أي سند قانوني أو تدقيق محاسبي من الشركةالعامة للإسمنت الجنوبية، إلى جانب مخالفات أخرى جسيمة. وهناك أيضًا شكوى من “الحق العام” لدى محكمة تحقيق قضايا الفساد في البصرة، تتعلق بقيام المتهم وائل عبد اللطيف بتوزيع أراضٍ بصورةغير قانونية خلال فترة تولّيه منصب المحافظ. أما أبناؤه، مجاهد وسرمد، فهما موضوع دعوى مسجلةلدى مكتب تحقيقات البصرة القضائي بتاريخ ٢٠٢٣، برقم الشكوى (٢٤٩٧)، وأحيلت إلى محكمة تحقيقالكرخ بتاريخ ٢٠٢٣، عن جريمة تهديد وفق المادة (٤٣٠) من قانون العقوبات، بعد إطلاقهما عيارات ناريةعلى منزل المواطن نيزك غازي، وقد صدر بحقهما أمر قبض قضائي. كما أن ابنه سرمد عليه دعوى خيانةأمانة لدى محكمة تحقيق أبي الخصيب، وفق المادة (٤٥٣) من القانون نفسه، بناءً على شكوى منالمواطن إبراهيم مسلم ناصر، وقد صدر فيها حكم بالإدانة. ويواجه ابنه علي دعوى بالرقم (٧٦٥/ق٣) في٢٠١٧ لدى محكمة تحقيق قضايا النزاهة في البصرة، عن جريمة استغلال وظيفته كمنتسب إلى رئاسةمجلس الوزراء، وقيامه بالاحتيال على المواطن عصام عباس طعّان، والاستيلاء على مبلغ قدره (١٥٠) مليون دينار من أصل (٥٠٠) مليون دينار، بزعم إصدار خطاب ضمان لصالح الشركة العامة لصناعةواستيراد السيارات/فرع الإسكندرية، وقدّم للمشتكي خطاب ضمان مزوّر منسوب صدوره إلى مصرفالرافدين فرع الوزيرية. ويُضاف إلى ذلك دعوى مقامة من محافظ البصرة، ضد وائل عبد اللطيف وابنهمجاهد، بتهمة تزوير خطابَي ضمان صادرين عن مصرف الرافدين/فرع التأخي، الأول برقم (٥٢٢) في٢٠١٥، بمبلغ (٢,٧) مليار دينار، والثاني برقم (٥٢٣) بنفس التاريخ، بمبلغ (٥,٤) مليار دينار، بشأن سلفةتشغيلية لمناقصة إنشاء كليات في الزبير وأبي الخصيب. أما أبنه سرمد، فرغم كونه موظفًا في وزارةالخارجية، يمارس أنشطة تجارية ممنوعة قانونًا، وقد شارك في إصدار خطابي الضمان المزوّرين بالشراكةمع المدير المفوض لشركة “فيرندا” الإسبانية.
ولا يقتصر التهريج على وائل عبد اللطيف، بل يشمل أيضًا عددًا من أعضاء مجلس النواب، فمثلًا، النائبرائد المالكي مطلوب للقضاء على خلفية شكوى مقدّمة من رئيس مجلس الوزراء، بسبب قيامه بتضليلالرأي العام بشأن إحالة رئيس المحكمة الاتحادية السابق، جاسم العميري، على التقاعد، إذ ادّعى كذبًا أنرئيس الوزراء مارس ضغوطًا على العميري للتراجع عن قرار العدول الذي أصدره عام ٢٠٢٣ بخصوصاتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله. والحقيقة إن إحالة العميري على التقاعد جاءت بعد أن رفضتسعة من قضاة المحكمة الاستمرار في العمل في ظل وجوده، نتيجة تسييسه لقرارات المحكمةوابتعاده عن السلوك القضائي، حين طلب تدخل القوى السياسية بشكل علني، عبر مخاطبات رسميةوجّهها إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب. بل إن العميري نفسه هو من مارس الضغوط علىأعضاء المحكمة للعدول عن قراره، بعد أن أدرك حجم الخطيئة الدستورية التي ارتكبها، والاضطرابالذي خلّفه في بنية النظام القضائي. وعلى أثر الشكوى، وجّه جهاز الادعاء العام كتابًا إلى مجلس النواببالعدد (٤٨/حصانة/٢٠٢٥/٢٨٨) بتاريخ ٢٠٢٥/٦/٢٩، لاستحصال الموافقة على اتخاذ الإجراءات القانونيةبحقه. أما النائب عامر عبد الجبار، فيواجه شكوى جزائية مقدّمة من رئيس الوزراء محمد شياعالسوداني، بناءً على كتاب رئاسة الادعاء العام الموجّه إلى رئاسة البرلمان بالعدد (٥٢/حصانة/٢٠٢٥/٢٩٣)،والمؤرخ في ٢٠٢٥/٦/٣٠، يطلب فيه استحصال الموافقة على اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه، عنتصريحات أدلى بها تسيء إلى الحكومة العراقية. النائب أمير كامل المعموري، بدوره، يواجه شكوى منالمدير المفوض لشركة “الأويس” للتجارة والمقاولات والتجهيزات الغذائية، على خلفية مقطع فيديونشره على صفحته الشخصية، تضمّن إساءة مباشرة وتحريضًا ضد الشركة، وفقًا لكتاب رئاسة الادعاءالعام المرقم (٥٠/حصانة/٢٠٢٥/٢٩١) بتاريخ ٢٠٢٥/٦/٣٠، الموجّه إلى مجلس النواب لاستحصال الموافقةعلى اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه. أما النائب ياسر هاشم الحسيني، فتلاحقه شكوى من شركة“سمارت كلاود التركية”، بعد قيامه بنشر مقطع فيديو يتّهم فيه الشركة بالتزوير وينفي وجودها القانونيفي العراق، وهو ما دفع رئاسة الادعاء العام إلى توجيه كتاب رسمي إلى مجلس النواب بالعدد (٢٥/حصانة/٢٠٢٤/٧٤٨) بتاريخ ٢٠٢٤/١٠/١٧، لاستحصال الموافقة على اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه.
ورغم كل ذلك، لا يزال هؤلاء السياسين يزعمون أن قرار المحكمة الاتحادية لسنة ٢٠٢٣ بشأن اتفاقية خورعبد الله هو قرار بات وملزم لا يجوز إلغاؤه، متجاهلين قرار المحكمة ذاته الصادر في ٢٠١٤، الذي فصلالنزاع نفسه بشكل أدق وأعمق وأقرب للمعايير الدستورية والقانونية وهو قرار بات وملزم ولا يجوزللمحكمة العدول عنه. وقد تم التآمر على هذا القرار من خلال تنسيق سياسي وقضائي بين رئيسالمحكمة السابق جاسم العميري والنائبين رائد المالكي وسعود الساعدي، إذ تم تقديم طعن شكليلتبرير العدول، رغم أن المادة (٤٥) من النظام الداخلي للمحكمة لا تجيز العدول عن “الحكم”، بل عن“المبدأ”، ولا يجوز بأي حال من الأحوال استخدام نظام داخلي لتجاوز مبدأ “حجية الشيء المقضي به” الذي يمثل ركيزة من ركائز الأمن القانوني في الأنظمة الدستورية.
ولم يكتفِ هؤلاء بتشويه الأحكام القضائية، بل حاولوا تضليل الجمهور بادعاء أن مقال الدكتور القاضيفائق زيدان الموسوم “أمواج خور عبد الله بين قرارين متناقضين”، المنشور باسمه الشخصي، هو بمثابةقرار سياسي بالتنازل عن خور عبد الله، في حين أن المقال جاء في سياق تحليل دستوري خالص للأزمة،ولم يتضمّن أي موقف رسمي، بل سلّط الضوء على خطورة التناقض القضائي وتأثيره على استقرار المراكزالقانونية والالتزامات الدولية للدولة العراقية، وقد نُشر بصفته كاتبًا لا بصفته الوظيفية.
أما الاتفاقية نفسها، فه بعيدة كل البعد عن التنازل عن السيادة كما يُروّج. فهي لا تتضمن ترسيمًا جديدًاللحدود، بل تنظم الملاحة البحرية في ممر خور عبد الله، وفق ما تنص عليه المادة (١) من قانون تصديقالاتفاقية، بينما تنص المادة (٦) منه على أن الاتفاقية لا تؤثر على الحدود المرسومة مسبقًا بقرار مجلسالأمن (٨٣٣) لسنة ١٩٩٣. الاتفاقية وُقعت بطلب من العراق، في بغداد، ومنحته حقًا واضحًا باستخدام(١٥ كيلومترًا) من المياه الإقليمية الكويتية دون أية قيود مفروضة بموجب قانون البحار، وهو مكسبقانوني يُغفله المهرّجون عمدًا. الأسوأ أن من يطالب بإلغائها لا يطرح بديلاً واقعيًا، ويتجاهل العواقبالوخيمة التي قد تترتب على العراق في حال خرقه لاتفاق دولي مودع لدى الأمم المتحدة، ما قد يؤديإلى إعادة فتح ملف الفصل السابع، وإدخال البلاد في أزمة مع المجتمع الدولي.
إن ما يحدث ليس خلافًا مشروعًا، بل حملة تضليل يقودها مدانون ومتهمون، يسعون إلى حرف الأنظارعن جرائمهم، وتسويق أنفسهم كمدافعين عن الوطن عبر تهريج إعلامي لا يستند إلى منطق ولا إلىقانون. والواقع أن الوطن لا يُحمى بالكذب، والسيادة لا تُصان بالخداع، ومن يهدد الأمن القانوني للدولةلا يستحق أن يكون في موقع مسؤولية، بل في قفص الاتهام.