د. مجاهد ابوالهيل / كاتب وشاعر عراقي
من بين المفاهيم التي شوهتها التجربة العراقية مؤخرا، مفهوم الرعاية / Sponsor، الذي اخذ نصيبه من التسييس حاله حال الديمقراطية والتكنوقراط والمشاركة بالانتخابات وغير ذلك من المفاهيم التي أفرغها العراقيون من محتواها وفلسفتها .
فلسفة الرعاية وجوهرها الحقيقي هو تمكين المجتمع ومؤسساته المدنية من اداء دوره دون أن يتعكز بعكاز الدولة والمال العام، وحمايته من الاختراق السياسي من قبل الاحزاب أو المنظمات الدولية التي تحمل أجندة مختلفة مع منظومته الاجتماعية.
الثقافة والفن وفعاليات المجتمع المدني في العراق ليست من القوى الناعمة من وجهة نظر السياسيين ورجال الاعمال كما يحصل في العالم ودول الجوار العربي والاقليمي، لذلك تُعطى وزارة الثقافة كحصة سياسية ثانوية لبعض الاحزاب، بينما تغدق دولة كالسعودية أموالا طائلة على هيئة الترفيه التي حلت محل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بينما في الغرب تدرك الشركات العالمية أن ازدهار البيئة الثقافية يساهم في تحسين مناخ الأعمال من خلال جذب المواهب، والسياحة، والاستثمار.
كما تعي هذه الشركات أن مساهمتها في صناعة البنية التحتية الثقافية يمكن أن تحفّز النشاط الاقتصادي في المدن والمجتمعات، لذلك تقوم بمسؤولياتها تجاه المجتمع.
لكن الامر في العراق يختلف تماما لان الرعاة واصحاب رؤوس الأموال يفهمون الرعاية “وهذا من حقهم” بتشبيك المصالح مع الحكومة والمسؤولين الفعليين فيها لذلك تحولت بوصلة الرعاية من الفعل الثقافي والمجتمعي إلى الفعل السياسي والحكومي، لدرجة ان وجود اسم رئيس الوزراء او احد الشخصيات السياسية والحكومية في اي فعالية حكومية أصبح جاذباً للرعاة اكثر من أي فعل ثقافي أو اجتماعي او انساني.
رابطة المصارف العراقية مثلا التي كانت تلبي بعض احتياجات المجتمع المدني من خلال رعاية ودعم الأنشطة المهمة، أوصدت ابوابها تماماً بوجة المنظمات الثقافية والانسانية وحولت وجهتها نحو المشاريع الحكومية بشكل كامل لدرجة ان الرابطة اصبحت الذراع المالي للأنشطة الرسمية كما دخلت في الجوانب الخدمية ايضاً، تاركة الباب مقفلاً بوجه القوى الناعمة وفعاليتها.
الحكومة ومؤسساتها الرسمية ليست بحاجة إلى دعم مالي من القطاع الخاص وهذا ليس لائقاً بها لانه يدخلها في منطقة تضارب المصالح مع القطاعات التي تنظم عملها، مثلا كيف ترعى احدى شركات الاتصالات مؤتمر تقيمه هيئة الاتصالات وهي المنظم الحصري لهذا القطاع وبالتالي هي اكبر من ان تمد يدها لشركات تحت إشرافها.
الحكومة التي أمنت مصاريف فعالية كبيرة بحجم قمة بغداد وأبهرت الحاضرين بالتنظيم العالي ليست بحاجة إلى التنافس مع منظمات المجتمع المدني الصغيرة لتزاحمها على الرعاية من قبل القطاع الخاص.
الحكومة يجب ان تدفع الشركات الخاصة الى تقديم الدعم اللازم لنشاطات المجتمع المدني مقابل تسهيلات وإعفاء ضريبي يتناسب مع حجم الرعاية وبهذا تتمكن من تمكين منظمات المجتمع المدني من اداء دورها بشكل أفضل، كما سترفع عن اكتافها مسوولية رعاية المجتمع لتلقيها على كاهل الشركات واصحاب المشاريع الخاصة.
ما تقدم ليس ترفاً كلامياً بقدر ما هو تحذير جاد لتلافي إهمال القوى الناعمة التي ستتحول إلى قوى خشنة نتيجة إهمالها، وانا هنا اكتفيت بالعموميات تاركا التفاصيل والشواهد لمقال قادم.