ناجي الغزي/باحث سياسي واقتصادي
تعيش منطقة الشرق الأوسط لحظة تحوّل تاريخية فارقة، تتشكل فيها ملامح نظام إقليمي جديد تقوده قوى سنية بدعم أميركي مباشر، مستنداً إلى أدوات ناعمة تعيد رسم الخرائط والتحالفات من دون ضجيج الجبهات العسكرية، بل برويّة استراتيجية تعتمد النفَس الطويل والتكتيك السياسي.
المشهد الناشئ يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية للاستقطاب، ليؤسس لمحور سني – أميركي متماسك، تتقدمه دولة إقليمية مركزية تعمل كقاطرة للتحول العربي، مستندة إلى دعم خليجي شامل، وشراكة استراتيجية متنامية مع مصر والأردن وسوريا ما بعد النفوذ الإيراني، ولبنان منزوع السلاح السياسي لحزب الله. إنها لحظة إعادة تموضع إقليمية لا تترك فراغاً سياسياً، بل تملأه برموز جديدة، وشخصيات تمثل “الشرعية الحداثية” المتصالحة مع النظام الدولي.
تتجلى هذه الاستراتيجية في تعاطي المحور الجديد مع القضايا الحساسة، مثل غزة ولبنان وسوريا، حيث يتم التعاطي مع القوى الراديكالية كقوى منتهية الصلاحية، ويتم الإعداد لتحويلها إلى كيانات سياسية خاضعة لقواعد النفوذ الجديدة. أما أدوات التنفيذ، فليست طائرات ولا دبابات، بل ترتيبات إدارية، اقتصادية، وإعلامية، تُدار من غرف تحكم إقليمية موحدة، متوافقة مع إيقاع واحد تتناغم فيه الرياض، القاهرة، وعمّان.
أمام هذا الزحف الاستراتيجي البارد، يقف العراق على تخوم تحول حاسم. فإما أن يصعد إلى عربة النظام الإقليمي الجديد، أو يظل عالقاً في منطقة رمادية تبتلعه فيها الهامشية السياسية والاقتصادية. إن التوازن المطلوب من بغداد اليوم لا يقوم على إعلان الولاءات، بل على البراغماتية الواقعية، والقدرة على هندسة سياسة خارجية تنأى عن الاصطفافات الحادة، وتحمي الداخل العراقي من الارتداد الأمني والانقسام الهوياتي.
لقد أثبتت التجارب أن البقاء في دائرة الحسم يتطلب مرونة، لا انبطاحاً؛ وحياداً ديناميكياً، لا حياداً سلبياً. العراق، إذا أراد أن يكون فاعلاً لا متلقياً، فعليه أن يتقن لعبة التوازن بين المحور السني – الأميركي الصاعد، والعلاقات القائمة مع طهران التي باتت تخسر مواقعها بهدوء، ليس تحت ضغط العداء، بل بسبب تراجع قدرتها على التكيّف مع المرحلة الجديدة.
في هذا السياق، فإن أي حكومة عراقية تتبنى الواقعية السياسية، وتُجيد مخاطبة مختلف العواصم الإقليمية والدولية بلغة المصلحة لا الهوية، تجد قبولاً متزايداً في العواصم المؤثرة. أما من يروّج لنفسه على أنه خيار أميركي أو واجهة حداثية بديلة، دون امتلاك أدوات الدولة ولا عمق الميدان، فغالباً ما يُترك في دائرة الهامش، يُنظر إليه بعين السخرية لا الشراكة.
في المقابل، فإن القوى الشيعية التي راهنت طويلاً على الاحتكام إلى الاصطفاف الإقليمي القديم، تجد نفسها اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الانخراط في اللعبة الجديدة بديناميكية متصالحة مع الواقع، أو مواصلة إنكار المتغيرات إلى أن تنزاح من مراكز القرار رويداً رويداً. المطلوب ليس الاستسلام، بل إعادة تموضع واعٍ، يقود إلى دعم الحكومة القائمة كممثل شرعي للبيت الشيعي ضمن معادلة الحكم، بعيداً عن الانقسامات ومشاريع التنافس الفارغ.
المرحلة المقبلة تتطلب من القوى العراقية الفاعلة، على اختلاف مشاربها، أن تتجاوز الانتماءات الضيقة، وتفكر بلغة “الدولة” لا “الطائفة”، فالعراق أمام فرصة نادرة ليعيد صوغ موقعه في النظام الإقليمي الجديد، ليس كملحق، بل كشريك. والفرص في الجغرافيا لا تنتظر طويلاً، ومن يتخلف عن القطار، لا يسمع سوى صدى صريره وهو يبتعد.