كلمة / بغداد
في عالمٍ تشتدُّ فيه الصراعات وينشغل فيه الكثيرون بمصالحهم الذاتية، يبقى الاستماع إلى صوت المحتاج والمتعفّف من أسمى علامات الرقي الإنساني. إنَّ الكرم الحقيقي لا يُقاس بحجم الثروة التي يُنفقها الإنسان فحسب، بل بروحه التي تتفهّم آلام الآخرين وتسعى لتضميد جراحهم. وحينما ننصت لمن ضاقت بهم الدنيا ونُلبّي احتياجاتهم، فنحن لا نقدّم لهم العون المادي فقط، بل نمنحهم أيضًا جرعةً من الأمل ونعيد إليهم شيئًا من كرامتهم المهدورة.
سمة الكرم الحقيقية: الإصغاء للمحتاج
الاستماع بإمعان إلى ما يقوله المحتاج أو المتعفّف هو فعلٌ يتجاوز حدود الصدقة المادية. عندما يفتح إنسانٌ قلبه للفقير ويركّز انتباهه على شكواه، فإنه يثبت بذلك أن الإنسانية ما زالت حيّة في ضميره. ليس الكرم مجرد أن تجود بالمال، بل أن تجود بالأُلْفة والاهتمام؛ أن تُشعر ذلك المحتاج بأنه ليس وحده في معاناته. في كثير من الأحيان، تكون الكلمة الطيبة واللمسة الحانية خير عونٍ قبل المال، إذ قد تنير درب اليائس وتذكّره بأن الخير لا يزال في الدنيا.
مظاهر الكرم الإنساني في التعامل مع المحتاجين تشمل:
• الإنصات باحترام: إعطاء المحتاج فرصة للتعبير عن همومه دون مقاطعة أو استخفاف.
• التعاطف الصادق: التفاعل مع مشكلاته ومشاعره بصدق وإحساس، وكأنها هموم فردٍ من العائلة.
• تلبية الاحتياجات بكرامة: الحرص على تلبية مطالبه أو حل مشاكله بطريقة تحفظ له كرامته ودون إشعاره بالمنّ أو الإحراج.
• المتابعة والاهتمام المستمر: سؤال المحتاج عن حاله لاحقًا والتأكد من زوال ضائقته، مما يشعره بأن يداً حانية تمتد له دومًا.
نموذج مضيء: السيد عماد البرهان
في هذا السياق يبرز السيد عماد البرهان كأحد النماذج المشرقة للكرم والإنسانية في واقعنا المعاصر. اشتهر البرهان بمواقفه النبيلة في مدّ يد العون للعوائل المتعففة والفقراء، حيث لا يكتفي بتقديم المساعدة المادية فحسب، بل يُصرّ على الاستماع إلى معاناتهم وفهم احتياجاتهم الحقيقية. لقد وضع نُصب عينيه كرامة الإنسان المحتاج، فيسعى إلى تلبية مطالبه بطريقة تحفظ له إنسانيته دون جرحٍ لمشاعره. مواقف السيد عماد البرهان تُظهر كيف يمكن للفرد الواحد أن يكون بارقة أمل لعشرات الأسر، وكيف أن التعامل باحترامٍ وتعاطفٍ مع المحتاج يترك أثرًا عميقًا في النفوس أبعد بكثير من حدود المساعدة الآنية.
البساطة والعفوية: شرف الفقير المكافح
يخطئ من يظن أن الفقر ينال من ذكاء الإنسان أو قيمته. فكثيرًا ما يُنظَر إلى الفقير على أنه بسيط التفكير أو قليل الحيلة لمجرّد أنه لا يملك مالًا أو تعليمًا عاليًا، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا. إنَّ فقيرًا يكافح لأجل لقمة عيشٍ كريمة قد يحمل في قلبه من الحكمة والنبل ما يفوق أعظم العلماء، لأن تجاربه القاسية صقلته وأظهرت معادن أخلاقه الأصيلة. عفوية تصرفات الفقراء ونقاء سريرتهم يجعلهم يتصرفون بشرفٍ ودون تصنّع؛ فهم يتعاملون وفق فطرتهم السليمة التي لم تلوّثها أطماع الدنيا. هذه البساطة الممزوجة بالشرف يظنّها البعض سذاجة، لكنها في الواقع دليلٌ على طهارة القلب ونُبل المقصد.
الكرامة الإنسانية رغم قسوة الظروف
إن الكرامة الإنسانية ليست حكرًا على الأغنياء والمقتدرين، بل هي حقٌ أصيل لكل إنسان مهما اشتدّت عليه الظروف. قد يحرُم الفقرُ الإنسانَ من كثيرٍ من الملذات المادية، لكنه لا يستطيع أن يسلبه كرامته وإرادته الحرة إلّا إن سمح هو بذلك. لذلك نجد المحتاج المتعفّف يفضّل أن يصبر على جوعه وحاجته على أن يمدّ يده بذلّ، محافظًا على كبريائه الداخلي. وحين نبصر مَن يبادر إلى مساعدته مع احترام خصوصيته وصون ماء وجهه، فإننا أمام مشهدٍ تتجلّى فيه أسمى معاني النبل الإنساني. إن تلبية حاجات الفقير المتعفّف بشكل يحفظ له اعتزازه بنفسه هي دعمٌ نفسيٌّ بقدر ما هي دعمٌ مادي؛ إنها رسالة بأن المجتمع لا يزال يرى فيه إنسانًا كريمًا له مكانته وقيمته.
القيمة الوجدانية والنَّفَس الروحي
في فعل العطاء المتواضع واستماعنا بإخلاص لمعاناة غيرنا، يتجلّى جانب وجداني وروحي عميق. فهذه الأعمال ليست مجرد تعاملات اجتماعية، بل هي تعبير عن الروح حين تسمو فوق أنانيتها وتتصل بروافد الرحمة الإلهية. عندما نصغي لآلام الفقير ونعينه، نشعر بدفء الرضا الداخلي وكأن أرواحنا تغتسل بنور الإحسان. وقد أشادت التعاليم الروحية بأولئك المتعفّفين الذين لا يطلبون العون جهارًا؛ حتى جاء في القرآن الكريم وصفهم بأن «يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» (البقرة: 273)، أي أن تعفّفهم يمنعهم من السؤال حتى يظنهم من لا يعرف حالهم أغنياء لصونهم أنفسهم. هذا البُعد الروحي في العطاء والتراحم يذكّرنا بأننا عندما نكرم الضعفاء فإنما نكرم إنسانيتنا ونعبّر عن جوهر الأخلاق الذي غرسته السماء فينا.
خاتمة
إن الاستماع للمحتاج والمتعفّف وتلبية مطالبه ليس مجرد عمل خيري عابر، بل هو مؤشرٌ صادق على نبالة المعدن الإنساني في داخلنا. فحين نرى أمثال السيد عماد البرهان يغرسون بذور الخير بتواضعٍ ومحبّة، ندرك أن قيم الكرامة والرحمة ما زالت بخيرٍ في مجتمعاتنا. وكلُّ واحدٍ منّا قادرٌ على أن يكون صوتًا لآلام المستضعفين وبَلسَمًا لجراحهم إذا تحلّى بالوعي والإنسانية. إن الكرم في جوهره هو أن تعطي من قلبك قبل أن تعطي من جيبك، وأن ترى في وجه الفقير أخًا لك في البشرية فتعامله بما تحبّ أن يعاملك الناس. تلك هي الإنسانية في أجمل صورها: عطاءٌ يستبطن احترامًا، وكرمٌ لا يبتغي سوى رضا الروح وسلام الضمير