الشيخ محمود الجياشي

( رؤيةٌ قرآنيةٌ )

طالما كان الإختلاف في المستوى الإجتماعي والتمايز الطبقي بين أفراد الإنسان عاملاً حاسماً في تحديد قرارات الإنسان وخياراته المصيرية في مسيرة حياته سواء كان التمايز الطبقي على المستوى الإقتصادي والمالي أم الثقافي والعلمي أم العِرقي والنَسَبي .. وقد عاش المجتمع البشري بسبب ذلك وما زال يعيش فترات مظلمة لاقت فيها بعض طبقات المجتمع الكادحة والمسحوقة أقسى أنواع الظلم والتعسّف والإضطهاد الإجتماعي والنفسي وحتى الأخلاقي والديني ! وذهبت ضحية ذلك أجيال كاملة لم يُكتب لها أن تخطّ مسيرة حياتها الإنسانية الطبيعية ولم تتمتّع بما وهبها الله من مقوّمات الكائن البشري التي تتساوى فيها مع الآخرين بسبب صرامة التمايز الطبقي وإختلاف المستوى الإجتماعي السائد في المجتمعات الإنسانية على مرّ العصور !
بالتأكيد لستُ بصدد بحث هذه المشكلة الإجتماعية والأخلاقية بمعناها العام لأنها مشكلة عميقة الجذور واسعة الآثار على طول التاريخ البشري المنظور .. ويمكن أن تقع موضوعاً للبحث في عدّة علوم كعلم الإجتماع وعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم التاريخ وعلم القانون وحتى علم الإقتصاد فضلاً عن علوم الدين والشريعة .. وقد تصدّت الأديان والرسالات السماوية وثورات الإصلاح الإنساني لمعالجة هذه العقبة الكبرى في منظومة المجتمع الإنساني وتغيير هذا الواقع الذي يخالف مقتضيات الفطرة الانسانية الأصيلة وقدّمت في سبيل ذلك أعظم التضحيات وخاضت أقسى وأشد أنواع الصراع الإجتماعي والأيديولوجي وناهيك أن العلاج لم ينفع حتى اليوم ! وقد أعيى الداءُ الطبيبَ !
لكني أحاول في هذا المقال المختصر أن أشير الى ظاهرة الطبقية الإجتماعية وتأثيرها الخطير في مسيرة الدعوة الى الله سبحانه والإيمان بالرسالات السماوية بالإستناد الى الرؤية التي يطرحها القرآن في هذا الموضوع وذلك من خلال الوقوف والتأمّل في بعض الآيات القرآنية التي نقلت بعض إنعكاسات التمايز الطبقي وكيفية تعامل الأنبياء والمرسلين مع هذه الظاهرة الإجتماعية التي تتنافى مع فلسفة الدين وروح رسالة الإصلاح الإلهي والتي طالما وقفت عَقَبَةً كبرى بوجه مسيرة الإصلاح والهداية الإلهية التي قادها أنبياء الله ورسله !
في هذا المجال يتعرّض القرآن الى هذه الظاهرة في آيتين كريمتين وبصياغة إستثنائية دقيقة ركّزت على نقل نفس الألفاظ والصياغات والأوصاف التي صوّرت التمايز الطبقي على لسان طبقة الملأ والوجهاء والأغنياء في حديثهم ومحاججتهم مع الأنبياء وخصوصاً ماوقع من محادثة بين نبيّ الله نوح عليه السلام وطبقة الملأ في قومه .
قال تعالى : (( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ))

مايهمّنا من هذا النصّ القرآني هو أن طبقة الملأ ووجهاء القوم إحتجّوا على بطلان دعوة نوح عليه السلام بأن الذين إتّبعوه هم ( أراذلنا ) !! ومانرى لكم علينا من فضل .. لأننا أفضل منكم في المستوى الإجتماعي والوجاهة !! وبالتالي نظنّكم كاذبين !!
هكذا لعب التمايز الطبقي هذا الدور الخطير في هذه المحاججة التي إنتهت الى الحكم بإنكار الرسالة الإلهية وتكذيب الوحي السماوي ! والأمر المثير هنا هو أن أحد أدلّة هذا الإنكار والكفر وتكذيب نبيّ الله نوح هو أن الذين إتّبعوه ( أراذل ) القوم !
وفي آية أخرى يأتي هذا الوصف نفسه على لسان الملأ :
قال تعالى : (( قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ))
و ( الأراذل ) جمع ( أرذل ) التي تعني الموجود الحقير، سواء كان إنساناً أم شيئاً آخر غيره.
‏وتجدر الإشارة هنا الى أن المؤمنين بالنبيّ نوح عليه السلام والملتفّين حوله لم يكونوا بالحقيقة أراذلاً ولا حقراء ! وحاشاهم عن هذا الوصف ! ولكن من المعلوم أنّ حركة الأنبياء عليهم السلام كانت تستهدف بشكل خاصّ الدفاع عن المستضعفين والمظلومين إجتماعياً فنجد أن أوّل من يستجيب للدعوة الإلهية ويضحّي من أجلها هم تلك الطبقة المحرومة والمظلومة والفقيرة والمستضعفة .. لكن طبقة الملأ والمستكبرين يعدّون معيار الشخصيّة هو القوة والثروة والوجاهة والنفوذ الإجتماعي فقط وبالتالي يحسبون تلك الطبقة المستضعفة ( أراذل وحقراء ) !! ومن هنا جاء جواب النبي نوح بالرفض لهذا التوصيف والإستنكار لهذا التقييم الظالم لهؤلاء الناس الفقراء فقال :
(( قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .. إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ .. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ))

إن طبقة الملأ وأصحاب الوجاهة والنفوذ الإجتماعي والمالي يصل بهم شعور الإستكبار والإستبداد الى إحتكار الدين والرسالة الإلهية على أنفسهم وتوظيفها لخدمة مصالحهم الدنيوية والحفاظ على مكانتهم وإمتيازهم الطبقي .
ومن الملفت للنظر في ذيل الآية السابقة قول نوح عليه السلام : وما أنا بطارد المؤمنين ! وهذا يدلّ على أن طبقة الملأ قد طلبت منه طرد الفقراء والمستضعفين من مجلسه ! فجاء جوابه بالرفض : ما أنا بطارد المؤمنين ! فوَصَفَهم ب ( المؤمنين ) وكأنّه ردٌّ على وصف الملأ لهم ب ( الأراذل ) !
وعندما نصل الى زمن النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله نجد ثنائية ( الملأ والأراذل ) ومقاييس التمايز الطبقي الدنيوي شاخصة أيضاً ! لنقرأ هذه الآية الكريمة ثمّ نبيّن سبب نزولها :
قال تعالى : (( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ))
فقد جاء في سبب نزولها أنّ جماعة من قريش مرّت بمجلس رسول اللّه صلّی اللّه عليه وآله حيث كان ( صهيب )و ( عمار ) و ( بلال )و ( خباب ) وأمثالهم من الفقراء والمستضعفين حاضرين فيه، فتعجّبوا من ذلك بناء على مقاييسهم الدنيوية التي تقيّم الإنسان على أساس الثروة والجاه والمقام الإجتماعي ، ولم يكونوا مدركين للمنزلة المعنوية والمقام الإيماني والإنساني لهؤلاء الفقراء ! ولم يدركوا أيضاً الدور العظيم والتاريخي الذي سيقوم به هؤلاء المستضعفون – في نظرهم – في بناء المجتمع الإسلامي ونصرة الرسالة الإلهية الخاتمة التي غيّرت مجرى التاريخ الديني والإنساني فيما بعد !!
فقالوا : يا محمّد! أرضيتَ بهؤلاء من قومك .. أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين مَنّ اللّه عليهم؟! أطردهم عنك، فلعلّك إن طردتهم إتّبعناك ، فأنزل اللّه الآية المذكورة .. وهي تصف هذه الثلّة المؤمنة – التي إستحقرها ملأ قريش – بأعظم الأوصاف حيث قالت : إن هؤلاء الفقراء يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ! فهم بهذه المنزلة السامية من التوحيد والمعرفة الإلهية … بل إنك إذا طردتهم ستكون من الظالمين !!
ومن هنا نجد القرآن في آية أخرى يأمر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله بالصبر مع هؤلاء الفقراء الذين يريدون وجه الله وأن لاتعدُ عيناه عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .. وتنهاه عن طاعة أولئك الملأ والأغنياء أصحاب القلوب الغافلة والمتّبعين لأهوائهم !
قال تعالى : (( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ))

ولايخفى أن ثنائية ( الملأ والأراذل ) سارية في كل زمان ومكان وقد واجهتها جميع حركات الإصلاح الديني والإنساني على مرّ العصور بل من المؤكد إننا نعيش فصولها وتجلياتها حتى هذه اللحظة ! ولا أجد نفسي مضطراً لذكر مصاديق وتطبيقات هذه الثنائية في عصرنا الحاضر لأنها أجلى من أن تُكفَر .. وأوضح من أن تُنكَر !! فهي شاخصة أمامنا بمسمياتها وعناوينها وأشخاصها وطرفيها ( الملأ والأراذل )!!
ومادام ( الملأ ) موجودين بيننا بنفس خطابهم الذي وجّههُ أسلافهم للمؤمنين ( وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .. فليضع كلّ منّا هذا النداء الإلهي أمام عينيه وقبل ذلك أمام قلبه وبصيرته وهو قوله تعالى :
(( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ))
فلنصبر مع هؤلاء الفقراء الذين يريدون وجه الله .. ولاتعدُ عيوننا عنهم تريد دنيا الملأ والجاه ومقامات وعناوين الدنيا الزائفة والزائلة .. ولا نُطِع الذين أغفل الله قلوبهم عن ذكره وكان أمرهم فرطاً .
وفي الختام لابدّ أن ننوّه الى أن بعض الأغنياء وأصحاب الوجاهة الإجتماعية – وهم الأندر – لايشملهم الكلام المذكور آنفاً بسبب مواقفهم الطيبة وتسخير إمكاناتهم المادية ونفوذهم الإجتماعي في سبيل الدعوة الإلهية والإصلاح الإنساني ونصرتهم للحق وإنصاف المظلومين والفقراء والمستضعفين .

محمود نعمة الجيّاشي
وادي السلام-النجف الأشرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *