أ. د عبد الستار الجميلي
مع تعقد وتشظي المسألة العراقية، وتشابك خيوطها المحلية والإقليمية والدولية، والغرق في مستنقع المحاصصة الطائفية والعرقية المقيتة، حتى بات التنفس بالكاد ينقذ ما تبقى من روح تجاهد لكي تبقى على قيد الحياة قبل أن يبلغ المنسوب أوتار الحنجرة.. لم يعد السؤال: ما العمل؟ كافياً.
فقد جربنا الإنتخابات، وكانت النتائج إعادة إنتاج الدكتاتورية بصورتها الديمقراطية المزيفة والمستبدة جماعيا عبر الكتل الطائفية والعرقية والعائلية والقرابية والمناطقية والعشائرية، التي حوّلت الوطن إلى مزرعة تتقاسمها كتل بغداد وأربيل.. وجربنا المصالحة الوطنية تحت مظلة جامعة الدول العربية، وما إن عُدنا إلى بغداد حتى جرى تناسي القرارت والإتفاقيات الإيجابية التي تم التوصل إليها بعد جهد وحوار صعب، بما فيها الإتفاق على ” التعديل الجذري لكل مواد الدستور”، فكان الإصرار على عدم تنفيذ أيّ من تلك القرارات والإتفاقيات، قرارا متخذ مسبقاً من قبل الأطراف القابضة على السلطة والثروة والقوة.. وجربنا التظاهرات الشعبية، وكانت المحصلة ألوف الشهداء والمصابين والمعتقلبن والمغيبين، وسيل من الإتهامات التقليدية التي تلجأ اليها الأنظمة الإستبدادية في مواجهة أبرز مظاهر الرفض الشعبي وهي النزول إلى الشارع لإعلان الرفض وطلبا للتغيير، إلى جانب دخول البعض على خطها لإجهاضها وتبرير قمعها.
لذلك فإن السؤال العملي هو: من أين نبدأ؟
وقبل الإجابة، علينا أن ندرك الهدف من سؤال البداية.. والهدف يكمن في مطلب التغيير، وهو طموح غالبية الشعب العراقي للخلاص من نظام المحاصصة الذي أشاع البغضاء والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.. وضرب منظومة الهوية والقيم الوطنية والإجتماعية في الصميم.. وأعاد إنتاج الإستبداد بأخطر صوره الجماعية تحت حُجب الديمقراطية المزيفة.. وقنّن الفساد المعلن ونشر فايروساته في كلّ مفاصل وسلطات ومؤسسات الدولة.. وقطّع أوصال الجغرافية العراقية بخنجر الفيدرالية والأقاليم التقسيمية، وبمشاعر الخوف التي تنتاب المواطنين الذين صار حلم التمتع بالهواء الطلق في خضرة ربيع أراضي الوطن أو التمتع بمنظر النجوم ليلا على سطوح أو باحات البيوت، صار من الماضي.. ودمر الثروات الوطنية والإقتصاد بكل مصادره الصناعية والزراعية.. وفتح الحدود العراقية لكل أنواع الإحتلال والإختراق والتموضع الدولي والإقليمي، وغير ذلك الكثير
لذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة القلقة حاضرا ومستقبلا، من أين نبدأ؟ في مواجهة هذا الحطام المُمنهح للدولة وعناصرها السكانية والجغرافية وسلطتها السياسية السيادية، ووظائفها الإدارية والخدمية.. وحتى تستقيم الإجابة مع ضرورات السؤال، فإنها تحتاج إلى إعادة ترتيب للأوليات في خضم تراكم التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية.
فنحن أمام إحتلال واختراق وتموضع دولي وإقليمي غير مسبوق من حيث الحجم والنوع والمخاطر والأطراف عمقاً وإتساعاً وأساليباً وأهدافاً.. ونحن أمام دستور إحتلال أصبح نموذجاً للكيفية التي يُمكن من خلالها هدم أي دولة وتمزيق أي مجتمع عبر التأسيس لقطع أواصر هوية الدولة الوطنية والقومية والروحية، التاريخية والحضارية والثقافية، وعناصرها ووظائفها، وذلك من خلال فرض محاصصة طائفية وعرقية مقيتة من مخلفات التشوهات الجنينية في التاريخ، ولا تمت للتطور الصحي للمجتمعات ولا للعصر ولا لأي جذر شرعي أو معرفي أو تاريخي أو إجتماعي أو حضاري، وفرض فيدرالية وأقاليم تقسيمية لا علاقة لها بالتجربة التاريخية والدستورية التي شهدها ويشهدها العالم لنموذج الفيدرالية كتوزيع للإختصاصات بين المركز والأقاليم ضمن دولة واحدة موحدة هوية وشكلاً ونظاماً ورموزاً وسيادةً ومصيراً.. ونحن أمام نظام هجين يفتقر إلى أبسط قواعد العدالة السياسية والإجتماعية، تم تركيب قواعد صناعية له من خارج الأنظمة السياسية المتعارف عليها في العالم، ما أنتج جماعات كتلوية تتصارع صفريا على السلطة والغنيمة والاقصاء، ضمن لعبة ديمقراطية شكلية أفرزت إستبداداً جماعياً لإقطاعيات الطوائف والأعراق والملل والنحل وشخوصها العائلية والقرابية، وفساداً مقنناً بأذرع محلية وإقليمية ودولية مافيوية، وتبعية رهنت الإرادة للخارج تحت أوهام الإنتماء للجماعات المتخيلة أو الأيديولوجيات والأطراف الدولية للإستقواء بها، وفي كلتا الحالتين تمّ رسم حدود محميات ضمنية تابعة للأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة والمستبدة بقرار ومصير العراق.. ونحن أمام إقتصاد إستهلاكي بلا هوية، أحادي المصدر وإستيرادي، محطم صناعياً وزراعياً وإنتاجيا.. ونحن أمام غياب كلي لإستراتيجية وطنية عليا تحدد مصادر التهديد والمخاطر، والأصدقاء والحلفاء والأعداء، والأهداف والإمكانيات وغير ذلك من الجوانب التي من المُفترض أن توجه مسار الدولة وممارساتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، وبالتالي فنحن أمام بيئة سياسية وأمنية وإستراتيجية هشة.. ونحن أمام بنى مادية وصحية وتربوية وتعليمية متآكلة مقطوعة الصلة بالعصر ومستجداته وحاجات المواطن المادية والمعنوية.. ونحن أمام بيئة إجتماعية وأسرية وقيمية تواجه تزايد معدلات الفقر والبطالة وسوء توزيع الثروة، ومخاطر وسائل التواصل الإجتماعى بدون تنظيم وتوجيه.. ونحن أمام بيئة إقليمية منافسة ومعادية ومثقلة بمشكلات الصدع التاريخي والحدود والمياه والوجود من الشرق والشمال ومن الكيان الصهيوني، وبيئة دولية تسود فيها واقعية المصالح والقوة التي تحميها وسلاسل التوريد المُعولمة للشركات المهيمنة على حاجات الشعوب الأساسية، وتشهد هذه البيئة صراعا جيو سياسياً متصاعداً بإتجاه تعددية قطبية، لن يكون فيها مكاناً إلاّ للدول الكبرى وآليات الانتاج الضخمة.. وفي موازاة ذلك تجري عملية التغطية والتعمية على الواقع من قبل بعض المثقفين والإعلاميين والمحللين الذين مازالوا يجترون تراكم التراث الإستبدادي والثيوقراطي في الترويج لمنجزات حكومات الإحتلال البائسة من منطلقات طائفية وعرقية، تتصور أنها قد إمتلكت فرصتها للإستبداد بالسلطة وليست على إستعداد للتفريط بها وستقاتل من أجلها حتى الرمق الأخير.
فمن أين نبدأ؟
أولا نحتاج إلى تجريف مخلفات هذا الحطام من الأساس، من خلال إقتلاع قواعد العملية السياسية البائسة وديمقراطيتها الزائفة، وحتى نقتلع جذور هذه القواعد لابد من تحرير الوطن من الإحتلال والتموضع والإختراق الأمريكي والإيراني والتركي وما ترتب على ذلك من إفرازات ونتائج.. ومن جانب آخر لابد من إقرار دستور وطني جامع يقطع مع الإحتلال والمحاصصة والفيدرالية والأقاليمَ التقسيمية ومظاهرها ورموزها، سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وقيمياً، واعادة البناء الجذري لمؤسسات الدولة والمجتمع على أسس وطنية ومهنية ومدنية وعصرية.
ولكن كيف؟ فنحن أمام خيار عملية جراحية جذرية في مواجهة هذه الأولويات ذات المهمات الوطنية المُلحة.
إنّ أسلم الحلول وإن كانت صعبة، أن تجري العملية الجراحية في إطار مرحلة إنتقالية يُشرف عليها الجيش العراقي بطريقة سلمية وحيادية، وذلك تلافياً للمآلات المنفتحة على كل التوقعات والإحتمالات الخطيرة التي ستترتب على عملية التآكل المتسارعة لنظام المحاصصة الحالي، الذي لم تدرك أطرافه مشاهد النهايات الشاخصة في الأفق، وهي تغرق في حمى وعسل الترف الهش لمخابئ المنطقة الخضراء وأسسها الرملية.
2