كتب محمد السيد محسن
……
في الوقت الذي تتداول الشعوب ذكريات بلدانها وتذكّر بالتواضع والبساطة في سنوات خلت ، وتقارن بكل فخر بين تواضع الامس وفخامة الحاضر ، وبساطة الماضي وتطور اليوم ، يجد العراقيون أنفسهم يعيشون العكس حيث يتباهون بتطور ماضيهم وفقدانه في حاضرهم ، ويتناقلون صور الماضي “القريب” المنمق بجماله ويتحسرون على اغتياله اليوم.
حتى بات العراقي يتذكر جمال الامس ليلعن قذارة الحاضر وازباله التي تحاصر الأحياء السكنية دون استثناء. فالعودة الى الوراء يجب ان تكون دافعاً منطقياً لدورة التطور في كل البلدان ، تلك هي معادلة ثابتة لا يتم اختراق بديهتها الا حالة العراق ، حيث العودة باتت تحرشاً وقحاً بذاكرة العراقي لا مناص من ممارسة التحسّر والحيف على تلك الأيام وصورها البهيّة.
انه قتل للمدنية التي تأسست مع تاسيس الدولة العراقية الحديثة ، واغتيال للحظة البناء الذي يجب ان يستمر وإذا تجمد فقد تجمد بسبب ظروف قاهرة بيد ان لوحة الإعمار تبقى تحفز القائمين كي لا يتشوّه منظر المدن ، حيث لا وجود الى فكر النكوص والعودة الى الوراء.
اثارت شجوني صورة لمطار احدى الدول العربية في مطلع ستينيات القرن الماضي حيث يفترش رجلان الأرض ليوسموا جواز القادمين لهم بسمة دخول ولا وجود لدائرة استقبال للضيوف القادمين في الوقت الذي باتت اليوم مطاراتهم تضاهي اكبر مطارات العالم في محالات التطور التكنولوجي ،فيما نعود نحن الى الوراء .
وحين تجولت في احدى شوارع مدينة الحرية ببغداد طافت بي ذاكرتي الى الماضي القريب حيث كان الشارع يزهو بحدائق المنازل الغنّاء ، وتلك الأرصفة والأشجار ، بيد انه اليوم عبارة عن مطبات طينية لا وجود لحافة الشارع ولا ذكر لبقايا ذاك الطريق المعبّد ، أما المنازل التي كانت واسعة المداخل ولها خرائط بناء جميلة وتعتدّ بهندستها الوسيمة فقد تحولت الى اقبية متراصفة حيث انشطرت تلك المنازل الى اجزاء مشوّهة مع تزايد عدد أفراد ساكنيها وتناسلهم باجتياح الفاقة والفقر والبطالة ، سألت شقيقي عن خنوع اصحاب المنازل في هذا الشارع ولِمَ لا يطالبون المجلس المحلي بإعادة الشارع وتعبيده من جديد ، وعدم الخضوع لسلطة الفساد ، بل والاعتصام أمام المقر البلدي حتى تنفذ مطالبهم . تفاجأت بانهم طالبوا بما يسعون لتحقيقه وجاءهم الجواب من قبل المجلس البلدي ان شارعهم اكتمل العمل به منذ ثلاث سنوات وان أرصفته استخدم بها المقرنص الملون ، لكن المشروع تم تنفيذه على الورق فقط ، واستخدم المنفّذ اسماً لشركة وهمية وغادر وليس بوسع المجلس ان يعيد مشروعاً خلال ثلاث سنوات.
وتساءلت في نفسي : كم مشروع مثل هذا تم تنفيذه على الورق فقط ؟ وكيف بات الفساد ذريعةً تبريراً لأصحاب القرار كي يخلوا ذممهم أمام المواطنين؟
بل ان التذرع بالفساد بات هو الحل الانجع للتخلص من مطالب الجماهير في توفير ابسط الخدمات. تلك ذريعة تستند الى خطأ شائع بات يتغلغل الى النفوس حتى بات جبلّة لا يستحي منها فاعلها
ارحموا ذاكرتنا يا اصحاب القرار فنحن نزور بلادنا غبّاً ونعيش مع الأمكنة بالتذكّر والحنين ، وما نراه اليوم ليس هو ما تركناه .
ارحموا امكنتنا التي صاحبتنا في سنوات الوطن وبقيت تعيش معنا في غربتنا على أمل ان نعود اليها ونقضي معها لحظات همس مع الذات تؤجج بينا حسرة الابتعاد عن الوطن .
ارحموا تاريخ الأثر الذي يستند اليه العائدون فلا يمكن ان يبكي العائد على أطلال يفتعله التقصير ويمعن فيه الفساد.