الحظر: نعمة ان نقمة؟
كتب يحيى حرب
شخصيا، انا مع كل حظر ومقاطعة وحصار تفرضه دولة من دول الاستعمار القديم والحديث على دولنا، مع انني من دعاة الانفتاح والتفاعل بين الشعوب ولا أؤمن بتفوق او تميز عرق على عرق او ثقافة على ثقافة الا بالـ.. اي بأمر محدد وضمن اطار زمني، وليس بالمطلق.
ورغم ذلك استبشر خيرا كلما سمعت ان اميركا قاطعت بلدا، او فرضت عليه حظرا، واعتبر ذلك نعمة وفرصة لهذا الشعب لكي يبني شخصيته المستقلة وحريته وسيادته، ويبدأ طريق التقدم.
ان شعوبنا بحاجة الى صدمة تحررها من الرغبة الطفولية بالعيش في احضان الام الحنون.. التي تحولت الى العائق الرئيسي امام نموها السليم ونضجها الطبيعي.
كما ان دول الاستعمار بحاجة الى ما يحررها من عقدة التفوق والتسلط، والوهم بأن لها الحق باستغلال ثروات العالم وادارة شؤون الشعوب القاصرة.
والبداية ربما كانت في هذا الشكل من العلاقة، الذي يؤكد ان دول الاستعمار هي اليوم في حالة عدم القدرة على التحكم بمسارات الشعوب واراداتها الراغبة في التحرر والاستقلال والكرامة.. كما انها تخشى استخدام القوة المطلقة التي تملكها بعد فشل القوة التقليدية في اخضاع الشعوب.
دول الاستعمار تقاطع الشعوب المستضعفة وتحظر قواها الحية، وتفرض عليهم الحصار لانها تتوهم ان البعد عنها سيحرمهم نعمة التقدم والسعادة والاستفادة مما لديها من معطيات الحضارة والرفاهية.. ولانها تتوهم ان الاخرين غير قادرين على بناء ذواتهم وحضارتهم وتقدمهم وحدهم..
ولهذا تصبح المقاطعة والحظر والحصار كلها فرصة للشعوب لتثبت قدرتها على الاستقلال والتمتع بالحرية وبناء اقتصاداتها وثقافتها الوطنية.
وما يدعوني الى هذا الاعتقاد الاسباب التالية:
اولا: ان العلاقة القائمة بين دول الاستعمار والشعوب النامية لا تزال غير طبيعية وغير متكافئة.. على الصعيد العملي وفي الاطار الفكري، او الصورة المتجسدة في ذهني الطرفين. بل ان هذه العلاقة محكومة حتى الان بعقدة التفوق والاستعلاء، والاعتقاد بأن شعوبا معينة هي صاحبة الامتياز بالتقدم والمعرفة والنظام وحكم القانون والعقلانية والابتكار.. وفي المقابل فإن هناك شعوبا اخرى من طبيعتها التبعية والتخلف والتقليد والفوضى والفساد والدكتاتورية.
ثانيا: لم يثبت لي في العقود السبعة الماضية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبداية عصر الامبريالية الحديث، ان تمكن شعب من بناء دولة متمكنة وصلبة، لا اقتصاديا ولا معرفيا ولا على صعيد الهوية والتماسك الوطني. وما نشهده في بعض الحالات المعزولة يؤكد القاعدة، وما هو الا طفرات تعقبها انتكاسات.. ولا يسمح لها بالخروج من تحت العباءة الامبريالية.
وحتى الاقتصادات التي وصفت بالمزدهرة ذات يوم ثبت بأن ازدهارها شكلي وهي اقتصادات مشوهة في العمق، وتختزن اسباب سقوطها وانهيارها في اي لحظة.
ثالثا: ان جميع الدول التي نشأت واستمرت بالعيش تحت قبضة الدول الاستعمارية، تحولت الى دول فاشلة، اقتصاداتها مشوهة وانظمتها مرتع للفساد، وهي عاجزة عن بناء المؤسسات وحكم القانون..
اذ انه ليس من قبيل الصدفة ان كل ما نعرفه عن مصر مثلا كدولة مهابة وذات حضور اقليمي ودولي فاعل وقيادي، ومن حيث تماسكها الداخلي وشعور ابنائها بالكرامة في ظل هوية جامعة، ونموها الاقتصادي والشروع في بناء القاعدة المادية الصناعية والزراعية الممنهجة، ومن حيث انتاجها الثقافي والفني والموسيقي والعلمي.. كان كل ذلك في تلك الفترة التي كانت تحاصرها فيها الامبريالية، بل وتخوض معها الحروب الواحدة تلو الاخرى..
وفي المقابل فإن مرحلة الانفتاح على الغرب والمصالحة معه شهدت فسادا وانهيارا لمفهوم الدولة وتخلفا اقتصاديا وتبعية للخارج وحالة خطيرة من الضعف البنيوي وتراجع قدراتها العلمية.. بما لا يتناسب ابدا مع قوة مصر وحجمها وطاقاتها.
وقل مثل ذلك عن الجزائر والعراق والعديد من الدول العربية وغير العربية.
رابعا: ان الدول الاستعمارية لم تستوعب حتى الان فكرة المساواة والشراكة المتكافئة في العلاقة، مع دول قوية بل تفوقها قوة، وامم ذات حضارات راسخة، كالصين وروسيا والهند مثلا، وهي لا تنفك تشوه سمعتها وتعرقل تقدمها، ولا تعترف لها بالتقدم والشراكة والقدرة على المنافسة.. وهي لو استطاعت ان تدمرها بالقوة العسكرية لفعلت، بل لا اشك بأنها تتحين الفرصة لذلك.. رغم تركيزها في المرحلة الراهنة على “القوة الشيطانية الناعمة” لاشغال هذه الدول وانهاكها واعادتها الى وضعية التبعية.
ولنا ان نتصور كيف تنظر هذه الدول الاستعمارية الى شعوبنا ودولنا، اذا كانت تتعامل بهذه الطريقة مع قوة مثل روسيا، تملك من وسائل الدمار والقوة العسكرية ما يوازي ما لدى الغرب الاستعماري، ورغم التقارب النسبي بينهما في الجذور الثقافية والدينية.
خامسا: ان الدول الاستعمارية لا تكف عن شن الحروب على الشعوب الاخرى، او ايجاد اسباب الحروب في ما بينها.. بل انها تعمل باصرار على تخريب بناء الدول، ومنع اقامتها بشكل غير مباشر، بنشر ثقافة الفساد والتخلف والدونية والشعور بالنقص، بل بشكل مباشر عبر التعامل مع الفاسدين والتبعيين والمستبدين، ومعاداة كل زعيم او قوة شعبية او حزب سياسي يعمل للوحدة الوطنية والتقدم والعدالة والتنمية، رغم مزاعمها الاعلامية بالدعوة الى الديمقراطية وحقوق الانسان..
انها تريد انظمة فاسدة لكي تتمكن من تأكيد تفوقها المزعوم واقناع الشعوب الاخرى بقدرية تخلفها وعجزها.. واظنني اميل اليوم الى الاعتقاد ان احد الاسباب التي دفعت الحكومة البريطانية الى فتح معركة مع حزب الله اللبناني، ان هذا الحزب يبادر الى محاربة الفساد وملاحقة رموزه، وهي تعلم انه قادر على ذلك، وتخشى من محاصرة دولة الفساد واطلاق دولة المؤسسات والكرامة الوطنية، في لبنان الذي يعتبر بؤرة لانطلاق هذه الشرارة الى المحيط.
سادسا: ان هذه العلاقة محكومة بذهنية متحكمة وثقافة تاريخية، تكونت عبر مئات السنين واصبحت جزءا جوهريا من الثقافة الغربية، ولا يستطيع ان يغيرها موقف هنا او تراجع هناك، ولا قرار حكومة او مقال كاتب صحافي، ولا يقظة ضمير ناشط حقوقي او وعي حزب سياسي.. انها تحتاج الى ثورة ثقافية عميقة وشاملة، لا يمكن ان تحدث دون صدمة قوية وهائلة، ليستفيق هذا الغرب ويدرك بأنه لم يعد ممكنا التحكم بالعالم والهيمنة على الشعوب الاخرى تحت اي مزاعم او اوهام، وان ثمن الهيمنة سيكون باهظا جدا قادرا على تدمير كل مكتسبات هذه الحضارة التسلطية..