كتب : ضرغام  كاظم

الكلمة التي تتداولها كافة وسائل الاعلام والتي تشغل كل مواطن في المملكة المتحدة من كافة طبقات المجتمع بشكل غير مسبوق هي مصطلح مركب من كلمتين  Britain Exit (بريطانيا تغادر) الاتحاد الاوربي بعد اربعين عاماً من التفاعل ضمن هذه المنظومة الاقتصادية السياسية الشاملة.

عندما وقف ديفد كامرون لاول مرة في البرلمان متصفحاً منهج مواد النقاش كزعيم معارض للحكومة العمالية التي كان يقودها السياسي المخضرم كَوردن براون، لاحظ السيد بروان ان السيد كامرون كان يعاني من بعض الارتباك فبادره بجملة ساخرة قائلا: لا وقت لنا للمبتدئين. قال بالنص:This is no time for novice

و” نوفس” كلمة قاموسية كلاسيكية تعني رجل الدين المتدرب قبل ان ينال لقب راهب في التسلسل الكنائسي. ابتلعها كامرون ورد عليها بابتسامة عريضة محولها الى مُزحة برلمانية.

فاز السياسي المبتدء كامرون في الانتخابات العامة، واصبح رئيساً للوزراء لدورتين انتخابيتين متتاليتين، ورغم ذلك بقي مبتدأً في بعض قراراته الجوهرية.

واسوء قرار اتخذه كامرون وهو يقترب من نهاية ولايته الثانية هو دعوته لاستفتاء الشعب البريطاني على عضوية بلادهم في منظومة الاتحاد الاوربي بعد 40 عاماً من عضويتهم في الاتحاد والتفاعل مع قوانينه المتشعبة. اتخذ كامرون هذا القرار المتسرع ارضاءً لبعض اطراف اليمين في حزبهالذين كانوا يتباكون على ذوبان السيادة البريطانبة في معاهدات الاتحاد، معتقداً ان الشعب البريطاني سيصوت لصالح البقاء ضمن الاتحاد فيكفوا عن تذمرهم. الا ان الاستفتاء كان قد تزامن مع موجات الهجرة المكثفة التي غزت اوربا من الشعوب العربية والافريقية.

لم يدرك المهاجرون الفوارق الحضارية بين مجتمعاتهم والمجتمعات الغربية التي تستقبلهم، ولم يفهموا انهم وصلوا الى مجتمعات تقدس الحرية الفردية. وان الفتاة الغربية تأكل ما يعجبها وتلبس ما يعجبها وانها عندما تتبع الموضة، او تفخر بمفاتن جسدها فلا يعتبر المجتمع من حولها ان ذلك دليل على رخصها، وان الوصول الى قلبها لا يتم الا عن طريق الحديث الذي يفك طلاسم الشخصية، وليس عن طريق استباحتها بالاعتداء عليها في التجمعات والاحتفالات العامة . باختصار ان الوافدين الجدد أساؤواالتصرف وأخافوا الشعوب التي احسنت استقبالهم، فتكررت حوادث الاغتصاب والاعتداءات.

استغل هذه الظاهرة عدد من اطراف اليمين المتشدد من داخل حزب المحافطين من امثال بورس جونسن ومن خارج الحزب مثل نايجل فراج فوحدوا جهودهم بحملة منظمة تمثلت بجولة حافلات مؤجرة تطوف البلاد موحية لعموم الشعب البريطاني بان البقاء في اوربا هو يعني ابقاء باب الهجرة مفتوحاً امام هذه الموجات البشرية المتخلفة التي ستُفقد بريطانيا هويتها المتميزة واعرافها التقليدية.

تحت هذه الشعارات ودون الانتباه الى الاضرار المادية والتعقيدات التشريعية التي ستتركها اثار الانسحاب من اوربا على الشعب البريطاني صوت الجمهور البريطاني في 23 من شهر حزيران من عام 2016 باغلبية بسيطة لم تتجاوز الـ 4% على مغادرة الاتحاد.

استقال على اثرها السيد كامرون وغادر مقر الحكومة في “داوننكَ ستريت ” نوفساً Novice كما دخلها، تاركاً عقد الانسحاب الذي ندم على تأيده الكثيرون الى خليفته “العنودة” تريزا مي.

وبعد عامين من المفاوضات مع اللجنة السياسية المخولة للاتحاد في بروكسل، جاءت السيدة مي بمعاهدة تتضمن حلولاً لم ترضي مؤيدي الانسحاب ولا معارضيه، ومن اصعب عقد الانسحاب هي مصير الارلنديتين (الشمالية والجمهورية) التي الغت معاهدة (Good Friday) الحدود بينهما ووضعت حداً للاحتراب الطائفي بينهما في أواخر التسعينات. وعندما تبقى احداهما عضواً في الاتحاد فان ذلك يعني ان الباب سيبقى مفتوحاً بين بريطانيا والسوق الاوربية الموحدة الى اجل غير محدود، وهذا مارفضه دعاة الانسحاب. وفي نفس الوقت لاقى المشروع رفضاً من دعاة البقاء في الاتحاد لتمسكهم بمطلب اعادة الاستفتاء. ورغم ضيق الوقت المتبقي على تاريخ الانسحاب المحدد في 29\3\2019، الا ان تريزا مي ما زالت تراهن على مراجعة هذا الموضوع مع بروكسل في الوقت الذي تصر فيه بروكسل على ان ما توصلت اليه مع السيدة مي في المفاوضات هو نهائي وغير قابل للمراجعة. وفي حالة عدم استطاعة السيدة مي تحوير بنود الاتفاق بما يرضي اغلبية برلمانية فسيحدث السقوط المدوي، اي الانسحاب بدون اتفاق وهذا يعني ان الاتفاقيات التي أُبرمت على مدى اربعين عاماً في مجال الدفاع والحدود والحقوق المائية  والعلاقات المصرفية وعشرات غيرها ستبقى معلقة في الهواء مما سيسبب كارثة اقتصادية غير مسبوقة في برطانيا التي تجهزها السوق الاوربية بمعظم احتياجاتها من الخضر والفاكهة. وهناك ازمة مذاخر الادوية والعقاقير المشتركة التي قد يعرض توقف تدفقها مؤوسسات الصحة العامة الى اخطار محدقة.

تعارض تريزا مي اعادة الاستفتاء بحجة ان ذلك يعني ان الديمقراطية البريطانية لم تؤدي مفعولها. نعم ليس هناك من يقول لها انها حقاً لم تؤدي مفعولها لان الظرف الذي صوت فيها الناس وشحة المعلومات التي توفرت لهم آنذاك ادت بهم الى القرار الخاطىء.

هذا في الوقت الذي يطالب فيه معظم اعضاء حزب العمال ، ومنهم صديق خان محافظ لندن اعادة الاستفتاء. الا ان السيد كوربن زعيم الحزب ما زال يعيش عصر “الادلجة” اذ يعتبر ان الاتحاد الاوربي يؤوسس لكيانٍ امبراطوري. فهو يريد ان تبقى برطانيا عضوة في السوق الاوربي الموحد ولكن خارج الاتحاد. هذا الموقف الواهي اضعف حزبه واوهن موقفه القيادي واودى بمشاريعه في البرلمان.

ليس واضحاً اذا كانت السيدة مي ستنصاع اخيراً لمنطق العقل وتوافق على اعادة الاستفتاء تحاشياً للكارثة المحدقة، بعد ان وصفها السياسي العريق في حزب المحافظين السيد كنث كلارك بانها لا تملك غير العناد.

                                                                                     ضرغام جواد كاظم

                                                                لندن في 16\2\2019                                              

                         

By Miimo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *