كتب : يحيى حرب
العملية المخابراتية المعقدة التي نفذها الموساد في مفاعل نطنز، اوصلت رسالتين لمن يهمه الامر في الادارة الاميركية. الاولى ان الكيان الصهيوني منزعج جدا من هذا الاهمال والتجاهل في ما يتعلق بمحادثات البرنامج النووي في فيينا.
والثانية ان هناك بدائل لابقاء ايران تحت الضغط، حتى لو فشلت العقوبات. وان نتنياهو مستعد لتحمل الكلفة في حال اندلاع حرب امنية وسيبرانية مع ايران. وهذه الخطة كانت ضمن اقتراحات قدمها رئيس الموساد يوسي كوهين، لمدير السي اي ايه وليام بيرنز، تحضيرا لزيارته المزمعة الى واشنطن.
الدوافع الاسرائيلية لتعطيل المفاوضات حول البرنامج النووي، لا تحتاج الى نقاش. بل ان استراتيجية نتنياهو تقضي بابقاء السلطات الاميركية في حالة استنفار ومواجهة مع ايران، بأي طريقة وأي مستوى من العداء! ولكن السؤال لماذا وافقت السي اي ايه على المشروع الانتحاري الصهيوني؟
في الاسبوع الماضي وبعد جلسة الثلاثاء الشهيرة لمحادثات 4+1 مع ايران في فيينا، شعر الوفد الاميركي بالاهانة والعجز التام. وانصاع للرغبة الايرانية بالبقاء في غرفة معزولة بعيدا عن قاعة الاجتماعات. بل ما كان للجلسة ان تعقد قبل ازالة العلم الاميركي من القاعة بطلب ايراني.
وقبل الاجتماع اضطرت واشنطن الى اسقاط كل الشروط التي جرى الحديث عنها في الاشهر الماضية، لاجراء تعديلات على الاتفاق تبرر للبيت الابيض العودة للاتفاق، ومواجهة الضغوط الكبيرة في الكونغرس، حيث اعلن الجمهوريون نيتهم في عرقلة مشاريع قرارات الادارة، اذا عادت للاتفاق.
كما جرى تجاوز جعجعة “الحلفاء” في المنطقة ومطالبتهم بالمشاركة في المحادثات، وتوقيع اتفاق جديد، وادخال قضايا لا علاقة لها بالبرنامج النووي في المحادثات. وبدا المشهد وكأن المجتمعين جاءوا للاستماع لما يريده الايرانيون، والشروط التي يسمحون بها بعودة الاميركي للاتفاق.
ميزان القوى بدا مختلا لمصلحة الجانب الايراني. فطهران لم تعد بحاجة ماسة لاحياء الاتفاق. وهي تأتي للمحادثات مسلحة بانتصارها في معركة الحصار والعقوبات “غير المسبوقة”، التي لم تستطع ان تلوي ذراعها، وبالاتفاق الاستراتيجي مع الصين التي قررت ضخ مئات المليارات في الاقتصاد الايراني.
وبالتوازي مع الاجتماعات اعلن الرئيس روحاني عن 133 انجازا متعلقا بالبرنامج النووي، في مختلف المجالات الصناعية والطبية والزراعية، ولا سيما أن طهران كشفت عن إنتاج أجهزة طرد مركزي متطورة وبدء تشغيلها. وبدأت تتحدث عن الغاء كافة العقوبات سواء المتعلقة بالبرنامج النووي او سواها.
الادارة الاميركية شعرت بالحاجة الى عمل يخفف من تفوق طهران، ويعيدها الى طاولة المفاوضات تحت الضغط والقلق، والقبول بسقوف اكثر انخفاضا، بحيث لا تبدو واشنطن في موقع المهزوم في المعادلة. وبعد الذي فعله ترامب لم يعد بيد البيت الابيض الكثير من الاوراق. اذن لا بد من الاستعانة باليد القذرة.
ما يريده الاميركيون اقل بكثير مما يتطلع اليه الاسرائيليون والسعوديون. فهؤلاء يرغبون بقلب الطاولة بينما اقصى ما تريده واشنطن تعديل المقاعد حولها. اولئك يسعون لاعادة انتاج ترامب وكوشنير وبومبيو، بهيئة بايدن وبيرنز وبلينكن. وهذا اقرب الى المستحيل لانه يعني الانتحار السياسي للديمقراطيين.
ايران التقطت الشيفرة الاسرائيلية. وهي الان بصدد الرد المناسب لابطال مفاعيلها. فهي اعلنت ان تعطيل الكهرباء عن نظنز لن تسمح بترجمته في فيينا، ثم زادت التخصيب الى ستين في المئة، وباشرت بتركيب اجهزة الطرد من الجيل الجديد، الاحدث والاقوى بخمسين مرة من تلك المتضررة.
والاهم ان ايران اعلنت جهوزيتها للمنازلة في حرب الخسائر المتبادلة. مرحلة الصبر والاستيعاب بلغت حدها الاقصى، وجاء دور الرد: ضربة بضربة.. وواشنطن اكثر من يعرف ان ايران ستنتصر في حروب الاستنزاف، بل هي الاقدر على تحويل الكوارث الى فرص. وهذا ما حصل في كل حروب المنطقة.
الرد الايراني السريع والمتدرج بعث برسالتين ايضا الى الادارة الاميركية: الضغوط على ايران لم تجد نفعا في اصعب الظروف، ومن السخف العودة اليها وهي في وضع افضل. ومن جهة اخرى: ان الوكيل اضعف من الاصيل في المواجهة، والمغامرات الاسرائيلية ليست الا العابا بهلوانية، اذا جد الجد.
كل ما تشهده المنطقة من فوضى وحروب وازمات هي نتيجة هذا الوهم الاسرائيلي، لكن موازين القوى الاستراتيجية جاءت معاكسة تماما. صحيح ان حالة عدم الاستقرار تؤخر نمو المنطقة سنوات، وتسبب بعض الالام، لكن التغيرات الحاصلة قد تقضي على الوجود الغربي بالكامل وتهدد كيان الاحتلال.
فهل تريد الولايات المتحدة ومعها الغرب الاوروبي خوض معركة وجودية حاسمة مع شعوب المنطقة؟ لا يبدو ذلك بل هي تبحث عن مصالحها، وتحاول تأخير بزوغ عالم متعدد الاقطاب. وحتى الان ترفض الشراكة مع القوى البازغة لكنها ستقبل بحصة من الكعكة اذا ما احست بعجزها عن الاحتفاظ بها كاملة.
لذا فالمشروع الصهيوني مآله الفشل، وهذا الاستفزاز والاختراقات الاستخبارية، على بشاعتها، لا تغير موازين القوى، ولا تجبر ايران على التنازل عن حقوقها، ومعها شعوب المنطقة المتحفزة للنصر، ومقاومتها ذات القدرة الموصوفة. وعلى بايدن ان يقرأ جيدا حتى لا يتحول الى ألعوبة تشبه سلفه المسخرة. ونحن اهل الصبر.