د. عباس الامامي

في العراق اليوم ظاهرة خطيرة تقوم على أساس تصنيف هويات الشعب، سواء كانت دينية أم طائفية أم عرقية أم قومية، وقد ترسَّخ هذه الظاهرة بشكل رسمي وعرفي وسياسي ومجتمعي.

وكثيرا ما نسمع أصواتا تقول إنه لا يوجد بلد موحد في العراق، أو أن المكونات المختلفة هي الأساس في البلد، من العرب والكرد والتركمان كأقوام، والشيعة والسنة والمسيحيين والايزديين والكاكائيين والصابئة كأديان ومذاهب، والوسط والجنوب والغربية وكردستان كمكونات مناطقية، إضافة إلى التقسيمات القائمة على أساس الدستور الذي كُتب في عهد الإحتلال الأمريكي الذي دشنه الغزر العسكري في نيسان 2003م.

وبالنسبة لقضايا الأمة الأساسية كقضية فلسطين نموذجاً هناك أصوات تنادي بأن العراق لا علاقة له بالشعب الفلسطيني والإضطهاد الذي يتعرض له لا يخص الشعب العراقي.

ولا يخفى وجود أزمة ثقافة عامة بشأن الهوية العراقية، وهذا رد فعل على عقود من سوء إدارة مقدرات الوطن والشعب ومن خلال دساتير غير جامعة لمكونات الشعب على أساس مفهوم المواطنة، وعدم توجه الحكومات المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية لخدمة الشعب بلا تمييز قومي ومناطقي ومذهبي، وتسلط حكام مستبدين حكموا العراق وشعبه بأدوات البطش والحديد والنار مستغلين الضعف الثقافي والطيبة النفسية لشرائح واسعة من الشعب العراقي، ولم يستخدموا موارد البلد لخدمة أهله، وكثيرا ما إنغمس هؤلاء الحكام، ماضيا وحاضراً، في صراعات على السلطة من أجل مصالحهم الشخصية والحزبية والعائلية على حساب المصلحة العامة، إضافة إلى غياب الديمقراطية الحقيقية والتمثيل الحر والصادق لرأي الشعب من خلال صناديق الإنتخاب بصورة شفافة وحقيقية، بل إن الانتخابات تتلاعب بها عوامل محلية وخارجية شتى.

من هنا أرى لزاما البدأ في التفكير في إعادة ضبط المسار الحالي وتحديد الإختيارات التي ستكون ذات أهمية جوهرية في رسم حاضر العراق ومستقبله، لأن واقع الحال هو أن البلد قد تعرض الى تآكل في التماسك الإجتماعي وتشرذم المكونات، وإنهيار التعليم والإقتصاد والثقافة العامة والبنى التحتية المختلفة مما يفتح الباب أمام زج مناطق كثيرة من البلد في دوامة من العنف والبؤس من ناحية، ولجوء كثير ممن يسمون أنفسهم بالقادة السياسيين إلى أبواب السفارات بحثاً عن الدعم السياسي لهم لإدامة بقائهم في الواجهة السياسية.

وللأسف، فإن من المفترض أن يكون هذا التوجه مخالفا تماما لواقع الشعب العراقي، والذي يتسم بالتفاعل الإجتماعي بين جميع المكونات لو تركوا على حالهم بعيدا عن الإعلام الموجه والإستغلال السياسي بعناوين مختلفة. لكن مما يؤسف له أن الهوية العراقية الجامعة باتت شبه مغيبة بالكامل من خلال الإستغلال السياسي، بل أصبح العراقيون مشتتين بين هويات متعددة الأبعاد ومركبة بشكل أكبر من ذي قبل.

ولأجل السيطرة على تعدد الهوية ينبغي أن تبذل جهود حثيثة لإبراز القواسم المشتركة بين أبناء الشعب بمختلف خلفياتهم الثقافية والدينية والمناطقية، والتقليل من أهمية الاختلافات، لأجل تعزيز التعايش السلمي بين أبناء الشعب على أساس مفهوم المواطنة الصالحة، من خلال دستور جامع للشعب بلا تمييز، ومساواة الجميع أمام القانون، بحيث يكون القانون حاكماً على الجميع، مع إستغلال موارد البلد لصالح الشعب في كل المناطق والبلدات والمحافظات.

ويعني هذا الطرح الجديد في فهم الهوية العراقية أن العراقي يمكن أن يكون شبكيا، صابئيا، تركمانيا ، عربيا، كرديا، مسيحيا، شيعيا، سنيا، ووو،  لأن ما يجمع المواطنين العراقيين جميعا من قواسم مشتركة من الثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصاهرات الإجتماعية كفيل بأن يجمعهم جميعا لحفظ مصالحهم حاضرا ومستقبلا لتأمين البلد من الإنهيار والتقسيم الذي إذا حدث سيحول الشوارع إلى برك من الدماء ويترك لنا الآلاف من الأرامل واليتامى والمعوقين وخراب البيوت والبلدات بأكملها “نعوذ بالله”. ويمكن السؤال حينها ما الفرق بين الحكومات الحاضرة وبين حكومة البعث التي أزالت عشرات البلدات وهجرت مئات الآلاف من المواطنين إلى خارج العراق ومارست سياسات التغيير الديموغرافي في كثير من المناطق العراقية مع تغيير حدود المحافظات المعهودة.

هنا يخال إلي أن هذه الرؤية للهوية المفترضة بعنوان المواطنة والرجل المناسب في المكان المناسب، وصرف الثروة الوطنية لخدمة الشعب بشكل يبني حاضرهم ويؤمن مستقبلهم هي رؤية أساسية للحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي يجب أن يبنيه أبناءه المواطنون من الشعب بمختلف شرائحهم سوياً.

المشكلة الأساسية في العراق أنه منذ تأسيس الدولة العراقية، ومنذ كتابة الدستور الأول في العهد الملكي، حيث فشلت الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد إلى يومنا هذا في تحدي زرع مفهوم المواطنة كتأصيل ثقافي في بنية ثقافة الإنسان العراقي وفي ذاكرته. بل لم توفق هذه الحكومات حتى من تحقيق توافق على العقد الاجتماعي المطلوب الذي يحدد القيم والمبادئ الأساسية اللازمة لضمان التماسك الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، ونتيجة الفجوة القائمة منذ تأسيس الدولة العراقية قبل قرن من الزمان بين الدولة والشعب، غدت نظرة الإنسان العراقي للدولة نظرة عدائية، وشملت هذه النظرة مؤسسات الدولة وممتلكاتها التي لا يعدها الفرد العراقي ملكاً له بالأساس، ((وأسباب هذه الظاهرة خارجة عن إطار هذا المقال)).

والسؤال الذي يطرح نفسه من خلال الدستور القائم الذي أسس لنظام فدرالي غير متوازن في البلاد: هل من الأفضل من ناحية الأمن والتنمية الاقتصادية والإجتماعية والتقدم الحضاري والثقافي أن ينعزل الشعب ويتفكك إلى كيانات صغيرة ليس لديها مساحة كبيرة للمناورة مما يجعلها فريسة سهلة للمطامع الخارجية؟ أم أنه من الأفضل للعراقيين جميعا النظر إلى نماذج مثل الاتحاد الأوربي وغيره من التجمعات الصاعدة الأخرى حول العالم كسنغافورة وماليزيا، البلدين اللذين يعيش فيهما أقوام مختلفة عرقيا ودينيا وثقافيا؟ ومعلوم إن أعضاء هذه التجمعات السياسية والاقتصادية الكبيرة يدركون عن حق أن غالبية الأخطار التي تواجههم هي أخطار عابرة للحدود، وأن أغلب التحديات والفرص أمامهم تتطلب العمل الجماعي. وقادهم هذا الإدراك إلى التماسك والعمل الجاد لبناء بلدانهم على أساس الالتزام بثقافة مفهوم المواطنة والإنسان المناسب في المكان المناسب، مع عدم التمييز بين المواطنين في تطبيق القانون، والإلتزام بهيبة الدولة واحترام القانون وتطبيق مفاهيم الحكم الرشيد.

وإذا انتهينا، كما هو المؤمَّل، أن من مصلحة العراق كبلد موحد قائم على أساس المواطنة بعيدا عن كل أنواع التمييز، والتقارب والعمل المشترك، فانه يجب علينا أولا أن نتوقف عن التستر على عيوبنا، أو إلقاء اللوم على الآخرين. وبعدها نبدأ في حوار عميق ورصين تشارك فيه النخب المثقفة في داخل الوطن وخارجه، وهي النخب التي تم تهميشها إلى حد كبير.

ومن أجل أن يكون لهذا الحوار جدوى وتأثير، فإنه ينبغي أن يؤخذ رأي المرجعيات الدينية التي استبعدت وقمعت لفترات طويلة وذلك بهدف أن يكون رأي الشعب بمختلف قطاعاته حاضرا في هذا الحوار.

ومن الضروري أن يكون التركيز على أمهات الأمور: من نحن؟ وما هي عناصر أمننا الوطني؟ وما الذي نرغب في تحقيقه؟ وما هي أفضل السبل للوصول إلى ذلك؟ وكيف تُوَزَّع السلطة على أساس الكفاءة؟ وكيف تُوَزَّع الثروة بشكل عادل بين المناطق المختلفة في البلاد؟ وكيف تُقَدَّم الخدمات لهذه المناطق وتُنَفَّذ المشاريع فيها خدمة للصالح العام؟ وكيف تتم محاسبة المقصرين في أداء واجباتهم؟ وكيف تتم محاسبة الفاسدين وسراق المال العام ومستخدمي مناصبهم لأجل مصالحهم الذاتية؟ وكيف يتم تفعيل ديوان الرقابة العامة؟ وكيفية تفعيل نزاهة القضاء واستقلاليته التامة؟ وأسئلة كثيرة مشابهة في هذا المقام هي من مسؤولية وزارة التخطيط والدوائر المتخصصة  والمسؤولة في المقام.

هناك أهمية قصوى لوجود نظام أمن وطني قائم بذاته يعتمد على أفراد الشعب من كل المناطق بشكل يمكن الوثوق في قدراته لحماية مصالح البلد والشعب.

والجدير بالذكر أن المشكلة أعمق مما يتصوره الكثيرون، لأن مناطق كثيرة من العالم العربي لم تتمكن الحكومات المستبدة المتعاقبة فيها حتى من التوافق على العقد الإجتماعي المطلوب مع شعوبها والذي يحدد القيم والمبادئ الأساسية اللازمة لضمان التماسك الإجتماعي في تلك البلدان. ولعل أوضح مثال على ما نقول هو العلاقة الملتبسة في بعض الأحيان والمثيرة للجدل في أحيان أخرى بين الدين والأخلاق والقانون وتقسيم المواطنين على درجات والتي تسببت في إثارة العديد من النزاعات والخلافات.

من هنا نرى بوضوح أن الجامعة العربية التي اعتُبِرت تجسيدا لهوية البلدان التي تغنت بالقومية العربية باتت ميتة سريريا. وانقلب نظام الأمن الإقليمي رأسا على عقب، وأمسى  يعتمد على الإستعانة بقوى خارجية في أغلب الأحيان إن لم يكن كلها، وتلك القوى تحلب بلدانًا ولا تتمكن من حماية نفسها واقتصادها وسيادتها …!!!. هذا بالإضافة بالطبع لما أظهره الربيع العربي من وجود حاجة ملحة لإصلاح أنظمة الحكم من حيث سيادة القانون والمشاركة السياسية وحقوق الإنسان، وسيكون من الواضح أيضا أن الدول الناطقة بالعربية أمست في ذيل الركب من ناحية امتلاكها للأدوات الأساسية للتقدم وهي العلم والتكنولوجيا والتعليم والبحث العلمي، وهو أمر غير مفهوم بالنظر إلى الموارد البشرية والمالية التي بحوزتها.

إننا بحاجة ماسة إلى نظام ديمقراطي للحكم يتسم بالشفافية والمحاسبة يدعمه قانون عادل، وتطبقه حكومات يحكم فيها رجال وطنيون مسؤولون. كما أننا بحاجة ماسة إلى أن نتعلم العيش معا داخل وعبر الحدود كشعب موحَّد تقبل التعدد وتحترم الأقليات.

العراق بحاجة إلى اللحاق بالعالم الحديث بعد ما دمرته السياسات البعثية المستبدة التي أدت إلى تسليم البلد للاحتلال على طبق من ذهب، والسياسات اللامدروسة بعد الاحتلال. ويمكن تحقيق ذلك عن طريق الإستثمار بدءا بوضع المناهج الدراسية للمراحل الدراسية المختلفة التي تركز على مفهوم المواطنة وحب الوطن ولزوم تطبيق القانون، وإشعار الفرد بأن ممتلكات الدولة هي بالأساس ملكه حقيقة وليس اعتبارا، إلى جانب ذلك عن طريق الإستثمار في مراكز التكنولوجيا المتقدمة وجامعات الصف الأول على مستوى العالم ومراكز الدراسات العلمية المختلفة.

الجدير بالذكر أن سياسات البعث الغاشمة طيلة 35 سنة عجافاً زرعت في ذهن المواطن مفهوم العداء لشعوب ودول الجوار. وبديهي أنه لا يمكن للفرد أن يعيش بهدوء وهو يعادي جيرانه. فمن هذا المنطلق يلزم للمؤسسات التعليمية والإعلامية المتعددة تحويل هذه الحالة النفسية المريضة إلى حالة صحية تقوم على أساس الإحترام للغير مهما كان انتماؤه، وأن يكون النظام قادرا على المبادرة إلى التعامل مع العلاقات المعقدة مع دول الجوار الإقليمي بشكل يؤمّن المصلحة العامة للبلد ولا يشكل تهديداً لدول الجوار أو يثير مخاوفها.

وفي هذا السياق، فإن الحوار مع إيران وتركيا وكل دول الجوار الإقليمي التي يتشارك معها العراق في الكثير ويختلف معها أيضا في بعض المسائل بناء على المصالح العامة للبلاد هو أمر لا يحتمل التأجيل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *