كتب ، ناطق خلوصي
لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث / ج 1
الدكتور علي الوردي
ولد الدكتور علي الوردي علم 1913 .تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعةتكساس في الولايات المتحدة . أصدر العديد من الكتب تمحور أغلبها حول دراسة المجتمع العراقي . توفي عام 1995. عُرفبجرأته وموضوعيته وصراحته وهو يحلل الظواهر الاجتماعية ومن مظاهر هذه الموضوعية والصراحة أنه كتب يقول في مقدمةكتابه ” وعاظ السلاطين ” الصادر علم 1954: “حدث لي ذات مرة في بدء دخولي الحياة الأمريكية أن حييت فتاة من فتياتصفي الحسان فردت لي التحية بغمزة من عينها . وغمزة المرأة في أمريكا لا تعني غير اللطف وحسن المجاملة . أما أنا فقدفسرت تلك الغمزة تفسيراً شرقياً خبيثاً. وبقيت طول يومي أنظر وجهي في المرآة وأضرب أخماساً بأسداس “.
كان الجزءالأول من كتاب” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ” قد صدر عن مطبعة الارشاد في بغداد عام 1969 وجاء في 320 صفحة من القطع الكبير وبسعر نصف دينار . وهذه بعض صفحات الكتاب :
“خلف بن أمين :
الواقع أن شخصية خلف بن أمين تمثل لنا نموذجاً لعدد غير قليل من العراقيين في العهد العثماني، ولا يزال لها نظائر فيأيامنا هذه بيد أنها في تضاؤل وتقلص على أي حال .عاش خلف بن أمين في بغداد في أواخر العهد العثماني ولا يزال أهلبغداد يتناقلون نوادره ويتفكهون بها . وخلاصة أمره أنه كان قميئاً جباناً وليس لديه من المؤهلات ما يجعل منه شقياً مشهوراًلكنه كان يطمح أن يكون شقياً يشار إليه بالبنان، فكان يملك مسدسين كبيرين يشدهما إلى جنبيه ليتباهى بهما انما هو لايستعملهما إلاّ حين يطمئن إلى زوال الخطر ، فإذا سمع في محلته أثناء الليل صراخاً يدل على وجود لص فيها ، ظل هو فيبيته لا يحرك ساكناً، حتى إذا هرب اللص أو ألقي القبض عليه خرج هو من بيته وقد شهر المسدسين بكلتا يديه يطلق منهماالرصاص ويصرخ :” أين هو ؟ دلوني عليه “. وكانت أحاديثه مع الناس لا تخلو من قصص القتل والسلب والسطوعلى البيوت و” البسط “، وهو يعزو الكثير منها إلى نفسه طبعاً ، وإذا وقعت حادثة قتل أو سرقة كبيرة ذهب إلى ” القلّغ “ــ أي مركزالشرطة ــ يسأل الناس هل ورد اسمه بين المتهمين ، ومن هنا جاء المثل البغدادي المعروف ” ما جابوا اسم خالكم؟؟ ” وكثيراً ماكان يحشر نفسه بين المتهمين أو يعمد إلى الاعتراف أمام الحاكم بجريمة لم يقترفها بغية دخول السجن ، ولكن الحاكم كانمعانداً له فكان يطلق سراحه في كل قضية ، ويخرج هو من المحكمة متألماً يذم الحاكم ويعتبره ظالماً لأته يطلق سراح” المجرمين ” ويحكم على ” الأبرياء ” . يمكن القول ان معظم الناس كانوا مثل خلف بن أمين يحبون التفاخر المصطنع بالشقاوة، وانما اشتهر خلف بن أمين وحده بهذا لأنه أفرط في تفاخره حتى صار اضحوكة للناس. ان الكثيرين في الواقع يملكون فيأعماق قلوبهم مثل تلك النزعة في التفاخر المصطنع غير انهم يتكتمون فيها ويدارونها مخافة أن يضحك عليهم الناس ، ولوكُشف الغطاء لرأينا فيهم كثيراً من طراز خلف بن أمين . ” (ص 25 ــ26)
” سليمان أبو ليلة :
كان سليمان باشا أبو ليلة أول من تولى الحكم في العراق من المماليك ، وهو قد توصل إلى الحكم ااثر فتنة طاحنة قام بهاالانكشاريون في بغداد وضربوا السراي بالقنابل واستمرت الفتنة ثلاثة أيام مما جعل الوالي الذي عينته الدولة يفر من بغدادطلباً للنجاة فاضطرت الدولة تعيين ” أبو ليلة ” والياً مكانه. دام حكم ” أبو ليلة ” ثلاث عشرة سنة تقريباً، وهو انما سُمي بهذااالاسم لتخفّيه في الليل وخروجه ، وكان شديد الوطأة على كل من يعبث بالأمن لاسيما العشائر المتمردة، ولا يرعى أي مبدأ أوذمة في ضرب الخارجين عليه. وقد لُقب بألقاب أخرى علاوة على ” أبو ليلة ” فكان الناس يطلقون عليه ” أبو سمرة “و ” دوّاسالليل ” و” سليمان الأسد “. ومما يلفت النظر أن هذا الوالي على الرغم مما كان يتمتع به من شجاعة وحزم في علاقته معرعيته خارج بيته ، كان في بيته ضعيف الارادة لا أمر له ولا نهي إذ كانت زوجته عادلة خاتون ــ وهي بنت سيده السابق ــمسيطرة عليه سيطرة كبيرة . وقد وصف السائح الألماني نيبور هذه السيدة ومبلغ سيطرتها على زوجها فقال : “انها لم تنسأن زوجها كان في شبابه مملوكاً لوالدها ، فكانت مغرورة جداً وحريصة على الحكم فعينت أياماً خاصة ليراجعها الناس فيقضاء حاجاتهم . فكانت تجلس في غرفة ويأتي رئيس “الخص…” اليها بالعرائض فتنظر فيها وتعطي الجواب . وكثيراً ماكانت تبطل الأوامر التي كان قد أصدرها زوجها أو كهيته .وكانت لها شارة شرف خاصة هي عبارة عن منديل حريري يتميزبها أتباعها ممن خدموا في عهد والدها وجدها، فكانوا يلفون الشارة على رؤوسهم أثناء المراسيم ليتميزوا عن سائر الموظفين . وصار على من يريد اقتناء هذه الشارة أن يدفع إلى عادلة خاتون مبلغاً من المال على سبيل الهدية . “
( ص 153 ــ 154 )
كاتب روائي وناقد
بغداد