كتب : وسام رشيد

المؤسسة العسكرية في العراق، ومنذ تأسيس الجيش العراقي في كانون الثاني/يناير عام 1921، تعمل بانضباط عالٍ ومهنية راسخة في عقيدة الغالبية الساحقة من الجنود والضباط وضباط الصف، هذه المهنية هي عبارة عن سلسلة متراصة من السلوكيات والحركات عالية الدقة وبإخلاص متناهٍ ورقابة ذاتية غير مسبوقة، تحول شيئاً فشيئاً الى أعراف ثابتة يتناقلها أبناء القوات المسلحة بفخر واعتزاز بينهم وللعالم المدني المترقب لما يحدث من بطولات وحنكة عسكرية لقادة وضباط الصفوف المتقدمة، وأُمراء التشكيلات والألوية وقادة الفُرق والفيالق، خاصة في أيام المعارك والحروب، وبغض النظر عن أهميتها والغاية منها الا إنها تظل معارك وسمت باسم العراق وكان الجيش العراقي طرفاً في بطولاتها وإخفاقاتها على حدٍ سواء، ويقود ذلك الى تعزيز الشعور بالانتماء بعد غياب ذلك الدور المقدس في حماية البلد وشعبه، في ظروف أسر وتغييب لإرادة ذلك الجيش والهيمنة على قراره العسكري بفعل الدكتاتورية المرة أو الاحتلال الذي حاول أن يُلغي ويجرف كل تأريخ وأعراف ورموز ذلك الجيش الذي احتل مراتب متقدمة بين جيوش العالم وصلت الى التصنيف الخامس من حيث العدد والتدريب. والأهم كفاءة ضباطه، رغم تدخلات الكيان السياسي الحاكم في تلك الفترة.
كما يحتل العراق مرتبة متقدمة بين جيوش العالم بالنسبة لعدد الضباط وكفاءتهم ومستوى التدريب الحركي والميداني لديهم، نتيجة الخبرات المتراكمة، لتركة الحروب الخارجية العديدة ومنها حرب عام 1973 ضد إسرائيل وحماية العاصمة دمشق من السقوط، ثم حرب الخليج الأولى مع إيران التي خاض فيها الجيش مئات المعارك الحاسمة بين صدٍ ورد وانتصارات وهزائم توجت بالنصر عام 1988، خرج بعدها الجيش بمنظومة عسكرية غنية جداً بمستوى القيادات والخبرات والاستعدادات الاستثنائية لأي معارك متكافئة في المستقبل، ولم يكن الانكسار في عام 1991 بعد مغامرة صدام حسين في غزو دولة الكويت والخروج منها دون خوض معارك حقيقية، لم يكن انكسارا لإرادة الجيش بل هو انكسار سياسي وانسحاب أمام ضربات جوية لأكثر من ثلاثين دولة عظمى ومتطورة في مجالات التكنولوجيا العسكرية والطيران الحربي والصواريخ.
الضربة المؤلمة التي تلقاها الجيش وكانت كفيلة بضياع الوطن وهدر ثرواته هو قرار حله وإيداع ضباطه الكبار في السجون منذ عام 2003 الى الآن.
الضابط العراقي الحقيقي هو ثروة وطنية عسكرية مليئة بالخبرات ومواصفات القدرة وأدوات الاقتدار، فعلى الرغم من أن بعض هؤلاء الضباط كانوا أدوات لقمع الشعب في مراحل معينة من حكم الدكتاتورية، الا إن الغالبية منهم كانوا بمستوى المسؤولية الإنسانية والأخلاقية تجاه مواطنيهم وأهلهم في محافظات العراق كافة، وهؤلاء كانوا أسرى مرتهنين لمعادلة الحكم البائسة التي أساءت للجميع بما فيها المؤسسة العسكرية التي دفعت أثماناً باهضة نتيجة تعسف وتخبط تلك السلطة المارقة، وبعد كل تلك التضحيات لا بُد من إيجاد صيغة يُنصف بها هؤلاء الضباط الذين اخلصوا للعراق، ولم يكونوا ضمن دائرة القتل والاضطهاد في عهودٍ غابرة، ذهبت ولم يكون لها مكاناً في عراق المستقبل.
إن عملية بناء العراق بحاجة الى أن نتدارك مشاعر القصاص، لأولئك الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين، واستبدالها بروح التسامح، فالدين والخلق الرفيع ضرب لنا أمثلة لعشرات الحوادث التي تغلبت فيها روح المسامحة والعفو، فضلاً عن إن التأريخ يزخر بآلاف الحوادث المماثلة، وليس آخرها التجربة في جنوب أفريقيا، وخطوات نيلسون مانديلا لبناء كيان دولته التي نهضت بالمصالحة والتجاوز على ما تفرزه حقب الاستبداد من مظلومية، وفي العراق تجربة بحاجة الى إعادة نظر وتصنيف عادل تراعى فيه مصلحة البلاد العليا، والركون الى القضاء العادل والإنساني ومن مبدأ العفو عند المقدرة، خصوصاً إن هذا الأمر مضى عليه أكثر من سبعة عشر عاماً ونصف من الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *