كتبت : أ.د.امل هندي الخزعلي
ان دعوات الاصلاح والتجديد الديني والمبررات التي تستدعيها ,تواجه عقبات وصعوبات جمة ,يتاتى بعضها من طبيعة عمل المؤسسات الدينية ومنطلقاتها العقيدية ,بينما بينما تنبثق صعوبات اخرى من الوسط الخارجي لتلك المؤسسات وعلاقتها باطراف اخرى كالبيئة السياسية والثقافية ويمكن تسليط الضوء على بعض تلك الاشكاليات :
1- ان المشاريع الاصلاحية ظلت في اغلبها نخبوية وذات اثر فوقي وموجهة للنخبة اكثر من اهتمامها بالطبقات الاخرى اذ لم يوجه الخطاب الى العامة بهدف النصح والارشاد والاقناع ,بل اعتمد اسلوب الاحتجاج بالنصوص والاستعانة بها – وهو امر ايجابي بحد ذاته – ولكنه ظل بعيدا عن المتلقي البسيط الذي ترك للخطابات الاخرى وتعبئتها باتجاه معين .كما انصب ذلك الخطاب على مناقشة الافكار بصورة عامة ولم يتعرض للمباني الفكرية والاسس المعرفية التي غالبا ما ظلت بعيدة عن المناقشة او اعادة القراءة بالنسبة للكثير من رجال الدين المتصدين للتجديد وقد يستثنى من ذلك نقد اسس المخالفين فقط.
2-الفجوة المتجذرة بين الفقهاء و رجال الدين , والمثقفون الدينيون ,حيث ظلت العلاقة بين الطرفين يشوبها الكثير من الشكوك واحيانا الاتهامات المتبادلة ,وظل كل طرف منهما يدعي صحة موقفه وحرصه على الدين وحمايته , فبينما يتحصن رجل الدين بمنظومته النصية ويعد نفسه المدافع الامين عنها ويفتخر بخزينه العلمي وتلك العقود التي قضاها في دراسة وفهم التراث الفقهي العتيد , يؤكد المثقف الديني على ان غايته الاساسية احياء الدين والفكر الديني وديمومته من خلال تسخير كل معارفه العصرية وثقافته الواسعة لهذا الغرض ,وانه بخلاف رجل الدين لايملك مصالح معينة تدفعه لاتخاذ موقف دون اخر .
3-مما يفاقم الفجوة المذكورة مسالة اعتماد المناهج المتباينة في البحث العلمي ,فبينما يلتزم ويتقيد رجل الدين بطرق البحث التقليدية والكلاسيكية ويتعامل مع الموروث الذي بين يديه وكانه حقائق مقدسة ,ويتمسك بالسلف الصالح ونتاجه , ويناضل عن الخط الارثوذوكسي الصحيح في وجه من يحاول ان يسائل او يشكك في مسلماته , ويتهم المثقف الديني باعتماد المناهج الغربية الحديثة كالتاريخانية والهرمونيطيقيا والتي من شانها النيل من ثوابت الدين واسسه الفكرية الراسخة , يؤاخذ المثقف الديني فقهاء الدين بسبب انغلاقهم على المناهج التقليدية واعتمادهم الاسلوب الاخباري بشكل اساس وعدم تطويرهم لتلك المناهج والاستفادة مما يشهده حقل المعرفة الدينية لغرض تعزيز المعارف الدينية واعادة قراءتها وفق اسس عصرية
4- عدم التمييز عند الكثيرين بين الدين والمعرفة الدينية وان الاول ثابت , والثاني متغير حسب التطور الفكري لكل جيل من الاجيال , وينظر الى كل محاولة تجديدية بانها خطوة للنيل من ثوابت الدين وستعرض نقاء العقيدة للخطر .بينما يحاول المتصدين للاصلاح التاكيد على ان تعاملهم يقتصر عاى الجانب المتغير الذي لابد ان يخضع للمناقشة والمراجعة والتجديد ليواكب التطورات الزمنية لكي يحافظ الدين على ديمومته وصلاحيته لكل زمان ومكان , وان رفض ذلك الاصلاح سيؤدي الى الجمود والتخلف وسيفسح المجال للاراء المتطرفة مجهة , ومن جهة اخرى سيعزز الدعوات التي لاتدعو الى مراجعة المتغير فقط بل الثابت ايضا .
5- عدم الركون الى العمل المؤسسي داخل الوسط الديني رغم الدعوات التي تنطلق بين مدة واخرى من هذا الجانب وذاك لمأسسة الخطاب الديني وخروجه للمتلقي بصورة وراي موحد لكي يمنع التشرذم وارباك الراي العام , الا ان تلك الدعوات لم تكتمل وظلت الموسسة الدينيةالاسلامية تقوم على مرجعيات واراء متعددة قد تلتقي في الثوابت ولكنها تختلف بشكل كبير في الفروع والمواقف , الامر الذي يقف حائلا امام خلق خطاب ديني موحد .
6- من الاشكالات الاخرى التي يواجهها خطاب الاصلاح بان دعاة الاصلاح لم يحضوا بالرعاية الحكومية الكافية ,ويشكوا رجال دين معتدلون من عدم توفير الدعم اللازم لطروحاتهم الاصلاحية ودعواتهم التجديدية واضطروا للاعتماد على امكانياتهم الذاتية لتوضيح رؤاهم الدينية والتعريف بها , في الوقت الذي تحضى فيه مؤسسات اخرى بدعم حكومي واضح . من جهة اخرى ينأى الكثير من رجال الدين بانفسهم عن السياسة ومن يمثلها خشية اتهامهم بمحاباة السلطة والتنظير والتبرير لسياساتها وبالتالي يبقى مجال التجديد وطروحاته في اطر ومجالات ضيقة ولاتكون في متناول الاغلبية من المتلقين .
فضلا عن ذلك قد لا يصرح بعض التجديديين بارائهم المغايرة لما هو سائد ويخشون من ابدائها والترويج لها الا في اطار ضيق خشية الاراء والمواقف المتشددة داخل وسطهم الديني .وكثيرا ما يقدمون عن التراجع عن بعض طروحاتهم االمغايرة حرصا على مكانتهم العلمية ووحدة منظوماتهم الدينية .
رغم كل تلك الاشكاليات فان الفكر الديني المعاصر يشهد محاولات اصلاحية جديرة بالاهتمام ,بل قد يكون متقدما في هذا المجال عن ايديولوجيات عديدة اخرى لم تشهد محاولات تجديدية منذ عقود عديدة وظلت حبيسة طروحات روادها ومنظريها الاوائل .مع ذلك تبقى الحاجة ملحة لتضافر الجهود للنهوض باحياء الدين وتشذيبه من كل ما من شانه جعله حبيسا لفتاوى وافكار مضى عليها زمن طويل ولم تعد ملائمة للتطورات المتسارعة التي يشهدها العالم وعلى كافة المستويات .