كتب علاء الخطيب

تناقضت الأفكار عندي كإنما / أنا جمعُ أشخاص وما أنا واحد

قد تختلف مدينة النجف عن غيرها من مدن العراق كونها تحمل ميزاتٍ مختلفة, فهيمجموعة مدنٍ في مدينة واحدة ,وهي مدينة الصراع والتصادم  الفكري والثقافي , كنتيجة للتنوع الإثني والتعدد الثقافي فهي أممية الثقافة, عربية الطباع والهوىوالروح, ففحول الشعراء العرب هم منْ عاشوا في أجواء هذه المدينة وأبدعوا,ولعل نزارقباني كان محقاً حينما قال عن  هذه المدينة (تمطر  سماء النجف خمسمائة شاعر فيالدقيقة في حين لا تمطر سماء جنيف سوى  ساعات اوميغا ونيفادا  وحليب نيدو سريعالذوبان), فعلى الرغم من أجواء الرومانسية والحياة  التي تحيط بالمدينة لكثرة شعرائهاإلآ انها  تعبق برائحة الموت حيث وادي السلام  المقبرة الأكبر في العالم وكثرة المشتغلينبالموتى أو الذين يعتاشون عليهم.

يقول الصافي النجفي ساخراً

إن الغري بلدة تليق أن ***  يقطنها الشيوخ  والعجائز

فصادرات بلدتي مشائخ***    و واردات بلـدتي جنائز

فلم يكن الصافي النجفي يسخر من مدينته إلا لتناقضاتها , هذا التناقض الذي  يؤديالى الصراع ولكنه صراع منتج وتناقض مبدع, وهكذا كانت على الدوام تحمل النقيضينفي آن واحد. ففي العام  1503م بعث إسماعيل الصفوي برسالة الى النجف يدعو علمائهاالى الالتحاق به  وعضد دولته فسارع الشيخ علي الكركي إليه, فيما كفره الشيخ أحمدالإحسائي لركونه الى السلاطين  وكان صراعاً عاصفاً وكبيراً , واعْتُبِر الكركي بعد أن قُلِدَمنصب النيابة العامة ( نائب الإمام)   مغتصباً لسلطة الإمام المعصوم وصلاحياته,لأنالإحسائي ومدرسته الإخبارية تعتبر أن العمل بالسياسة رجس من عمل الشيطان يجبإجتنابه.

وليس على سبيل الصُدفة أن يخرج من هذه المدينة سكرتير الحزب الشيوعي العراقيسلام عادل ( حسين الرضوي) واحد أهم منظري الماركسية ( حسين مروة)  و على الجانبالآخر يقابلهم مؤسس الحركة الإسلامية في العراق الشهيد  محمد باقرالصدر, فهذهالمدينة الحاضنة للحوزة العلمية والتي تحتوي على أكثر من عشرة آلآف طالب للعلمالديني, كانت بنفس الوقت تحتضن الفكر الماركسي وتعتبر النجف من المدن التيأحتضنت الحزب الشيوعي العراقي.

وكنتيجة للصراع الفكري والثقافي في هذه المدينة نشاهد صوراً من التمرد لدى مبدعيهاولربما يصل الى حد التطرف, فشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري أكبر المتمردينعلى تقاليد مدينته يرمي عمامته في الكناسة  التي تعتبر في عرف أجواء النجف  شيئاًمقدساً.

وليس بعيداً عن الجواهري  نرى السيد محمد صالح بحر العلوم في أربعينيات القرنالمنصرم الذي ينتمي الى عائلة علمية عريقة جلها من المعممين ورجال الدين,  يتمرد على  واقعه ويوجه نقداً لاذعاً حيث يقول في إحدى قصائده :

ليتني أسطيع بعث الوعي في بعض الجماجم

لأريح البشر المخدوع من شر البهائم

وأصون الدين عما ينطوي تحت العمائم

من مآسي تقتل الحق وتبكي

أين حقي؟؟

ولننتقل الى شحصية نجفية أخرى عاشت في بدايات القرن العشرين الى منتصفه وهيحسين قسام النجفي  ( 1898 – 1960) كان يعمل متولي لمقام هودٍ وصالح في وسط أكبرغابة للأموات في العالم كما يصفها الجواهري إلا أن هذا الرجل يحمل في داخلشخصيته نقيضين فهو  شخصية ساخرة وسيريالية عجيبة, وشخصية الإنسان البسيطالذي يعمل بمقامات الأولياء, فقد كان صاحبنا شاعر له داواوين سمى الأول قيطان الكلاموالثاني بسنجاف الكلام ومن يطلع على هذين الديوانين يرى حجم التناقض الي تحملههذه الشخصية,والإنسان ابن بيئته كما هو معروف

كانت قصائده المتمردة  على واقعه تحمل اكثر من دلالة ومنها على سبيل المثال:

لو وقع بيدي أصعدت سابع سمه

ابلا درج واركب بعيرة محزمة

وأقلب البرغوث والبرغش فلك

خاطر أشتل فوكهن شجرة جمه ( الكمأ: وهو نوع من  الفطريات)

ومن التناقضات التي يلحظها المتابع في هذه المدينة هي ان منها تخرج أعظم خطباءالمنبر الحسيني كالشيخ محمد علي اليعقوبي والشيخ كاظم نوح والشيخ الوائليرحمهما الله, ومنها أشهر مطربين عراقيين هما ياس خضر وحميد منصور.

حتى المجانين في هذه المدينة لهم مذاق خاص و متميز مجيد جرك وحمد عصا وميخاوشكوري وسفير الحب غماس  وصلاح أبو القوات, وشيخ باقر اللذينَه وغيرهم.

كل واحد من هؤلاء كان له صفه  فبعضهم يحفظ الشعر والآخر يتكلم الانكليزية وثالثيلعن الحكومة ورابع يحافظ على صلاة الجماعة, وهلم جرا , فترى في هؤلاء صور منالمتناقضات وتعبير عن واقع المدينة. فالنجف مدينة المتناقضات حقاً, ومازالت النجفتعيش تناقضاتها الى يومنا هذا , وإن تغيرت الصورة بعض الشئ .

علاء الخطيبكاتب وإعلامي 

By Miimo

One thought on “النجف مدينة المتناقضات….. علاء الخطيب”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *