الكاتب والروائي علي بدر
أقدم لكم قراءتي لكتاب جون بولتن “الغرفة التي وقع فيها الحدث” وهي الأسرار التي وقعت في الكواليس أثناء تولي جون بولتن منصب مستشار الأمن القومي بين عامي 2018 و2019، مكتوبة بطريقة المذكرات التي تكشف عن جوانب من النقاشات الخاصة في البيت الأبيض، بين الرئيس الأمريكي وعدد من المسؤولين الكبار في إدارته بينهم بولتن نفسه وجميس ماتيس، وزير الدفاع السابق، ووزير الخارجية مايك بومبيو. الأفكار والآراء هي آراء بولتن كما هي ولا تمثلني .
في الكتاب معلومات مثيرة فعلاً عن الكثير من القضايا المهمة التي لدينا أحياناً معلومات خاطئة عنها.
والمثير فعلاً بالنسبة لي أيضاً هو خطأ الكثير من حلفاء أميركا من تقديراتهم لسياسات ترامب وخصوصاً فيما يخص القضايا العالقة في الشرق الأوسط وتصورهم خسارتهم لترامب فيما لو ترك البيت الأبيض لصالح بايدن، من رأيي أن ما يكشفه بولتن هو أن أسوأ من أحط سياسات أميركا وأضعف من أمن حلفائها هو دونالد ترامب، مع إن بايدن لن يكون أفضل لهم بسبب تغير شديد في موقع أميركا وتغير في سياسات العالم وهنالك نمو وتشكل قوى جديدة مؤثرة وهنالك انحسار كبير سيصيب القوى التقليدية وربما تغير في سياسات أميركا وعودتها كما كانت إلى أميركا الرئيس وودرو ويلسون ومبادئه الأربع عشر، سياسة جيورجية (من هنري جورج) تقدمية في الاقتصاد والسياسة بعد أن شبع العالم من عبث وجرائم أميركا طوال قرن كامل.
طبعاً لمن لا يعرف ان بولتن جاء في زمن غير زمنه.
فهو من المحافظين الجدد والحريص على سياسة تضمن لأميركا تفوقاً عسكرياً وسياسياً في العالم، واتخاذ قرارات عسكرية رادعة لأية قوة تتحدى سياسات أميركا في العالم ولكن هذا الموقع ولى في حقيقة الأمر ورحل مع رحيل بوش ومجموعة المحافظين الجدد وقد غيرت سياسات أوباما من موقع الولايات المتحدة ولم تعد كما هي كما أن ترامب ملزم بسياسة جديدة لأميركا وموقع آخر في ظل أزمة اقتصادية وانكماش للاقتصاد وظهور قوى جديدة داخلية وخارجية وتشتت حلفاء أميركا الغربيين فعدت قرارات بولتن ونصائحه هي مهلكة للولايات المتحدة وخطرة على أمنها القومي لذا قام ترامب بطرده بطريقة مهينة، وهذه مشكلة ترامب أنه لا يتعامل كرئيس دولة مع موظفي البيت الأبيض انما مثل رئيس شركة غاضب، يقوم بإهانة وشرشحة موظفيه وطردهم بصورة غير لائقة ويحطم لهم مستقبلهم السياسي بتقليل احترامهم وإذلالهم.
يقول بولتن إن ترامب أعاق سياسات حلف شمال الأطلسي “الناتو” وأضعف دوره في العالم وعدم معرفته بأهميته وكان له عداء خاص ضد الحلف، وما يهمه هو كم تسهم أميركا في ميزانية الحلف، وكان يدلي بمعلومات خاطئة في اجتماع قمة الحلف في يوليو 2018، وقال لهم أن أميركا تسهم ب 90 بالمئة من ميزانية الحلف، فأثار سخرية الكثيرين، ويقول بولتن أنه يعرف وهنالك الكثير من المسؤولين الأميركيين يعرفون أيضا أن مساهمة الدول الأوروبية المالية وخاصة ألمانيا في ميزانية الحلف هي ضعيفة جداً، وكانوا يناقشون هذا مع شركائهم في الناتو، إلا أن ترامب كان يستبطن عداء لوجود الحلف ذاته، وهذا ما جعل الناتو في أضعف حالاته. وكان ينفجر أحياناً في ثورة من الغضب أثناء النقاش ضدهم، وسأل ترامب بولتن مرة:
لماذا لا ننسحب من الناتو، ما نفعه لنا؟
وكان له العداء ذاته إزاء الاتحاد الأوروبي، وكانت تأخذه على الدوام سورات غضب كما يقول بولتن ضد رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، واصفاً إياه بالشرير، ويعتقد أن يونكر هو الذي يحدد ميزانية الناتو، وهو أمر يثير سخرية الوفود الذين يعرفون أن الرجل لا علاقة له بالميزانية. وكان ترامب يكره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ اتهمه مرة بأنه يسرّب تفاصيل محادثاتهما، ونفى ماكرون ذلك بأدب وابتسامة.
أما جهل ترامب بالمعلومات الأساسية عن دول العالم فلها نصيب في الكتاب وهي تعبر فعلاً عن الثقافة الأميركية العامة التي كان جاي لينو يعلق عليها على الدوام في برنامجه الشهير مع جاي لينو، يقول بولتن أن ترامب يعتقد أن فنلندا -التي انعقد فيها اجتماع قمة بينه وبين نظيره الروسي فلاديمير بوتين في يوليو/تموز 2018- تابعة لروسيا. وقال بولتن أن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون “ضحك بقهقهة” على الرئيس الأميركي بسبب تصور ترامب لعلاقتهما، إذ كان ترامب يعتقد أن كيم يحبه ومعجب به. كما أن ترامب لا يصدق أن بريطانيا دولة نووية، ولم يتردد في أن يسأل رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي بجدية: هل صحيح أنتم قوة نووية؟ ومن الأشياء الساخرة أيضا هو إعجاب ترامب بالأنظمة السلطوية، يذكر بولتن أن الرئيس الصيني قال لترامب هناك انتخابات كثيرة في أميركا، وأنه لا يفضّل التعامل مع شخص غير ترامب، فهزّ الأخير رأسه موافقاً. وأخبره بأن الأميركيين يسألونه تغيير الدستور، على غرار ما تمّ في الصين، ليستطيع البقاء في موقعه لأكثر من ولايتين رئاسيتين.
ويذكر بولتن سياسات ترامب المتذبذبة في سوريا فاقترح على قطر والسعودية والامارات بدفع مصاريف قواته وأنه سيتدخل في سوريا، واقترح عليهم بدفع المصاريف الى 50 بالمئة وعندما تملصوا من اقتراحه سحب قواته من هناك، واستعرض بولتن ردود الفعل الأمريكية حول الهجمات التي اتُهمت فيها دمشق باستخدام الكيماوي عام 2018، ما أدى إلى القرار بشن عمليات عسكرية تستهدف أركان النظام السوري بما فيها قصر الرئيس السوري بشار الأسد إلا أن ترامب تراجع في اللحظة الأخيرة.
ويكشف بولتن أن ترامب كان يعرف أن النظام السوري قد استخدم الكيماوي قبل هجوم دوما بأيام في أماكن أخرى منذ أبريل/نيسان 2017، لذلك اقترح بولتن أن يكون الرد قوياً وبأن يصل إلى حدّ تهديد النظام بالهجوم على قصور الأسد، لكن ذلك لم يتم، ويحكي بولتن أن من الأسباب الكبيرة لإنهاء عمله هو غضبه من ترامب الذي تراجع عن توجيه ضربة جوية كانت مقررة لأهداف داخل إيران على خلفية إسقاط إيران لطائرة مسيرة أمريكية عام 2019 كلفتها 146 مليون دولار. وقد تراجع ترامب لأنه تصوّر وقوع عشرات القتلى، وهذا سيؤدي الى انتقام إيراني مماثل.
ويعتقد بولتن أن أكثر ما يخشاه ترامب هو أن تنسحب إيران من الاتفاق النووي وتساءل مرة في اجتماع للأمن القومي: “ماذا لو انسحبت إيران من الاتفاق النووي؟ فإسرائيل ليس لها القدرة ولا الموارد للقيام بعمليات عسكرية ضدها،” كما أن ترامب ليس له أية نية بردع إيران عسكرياً وكان يعرف أن العقوبات على طهران لم تكن بالفعالية المنتظرة، ويقول بولتن أنه قدم شرحاً مفصلاً لترامب عن الدور السلبي لإيران، ودورها المركزي في الإرهاب وحضورها العسكري “العدواني” في الشرق الأوسط، وأنه أبدى تخوفه من تنامي نفوذها في العراق عبر تغلغلها في الطبقة السياسية والحكومة وفي القوات المسلحة العراقية إلا أن ترامب لم يفعل أي شيء لردعها. ويقول بولتن أن ترامب لا يدرك أن التهديد النووي الإيراني هو أكثر خطورة من تهديد كوريا الشمالية لأن ما يحركه هي إيديولوجية قادة طهران، وأن تقدم برنامجها سيصير إلى سباق تسلح نووي في المنطقة من قبل تركيا ومصر والسعودية، ويجبرهم على اتخاذ خطوات مماثلة للحصول على القدرات النووية.
وفي قضية خاشقجي يقول بولتن كانت سياسة ترامب مثيرة للسخرية العالمية، بالرغم من أنه تعرض لضغوط كبيرة من وسائل الاعلام إلا أنه حول هذا الضغط إلى وقوف مع الرياض، إذ أكد أنه “سواء أكان ولي العهد هو المتسبب أم لا، سنقف مع السعودية”.
أما ما يخص أردوغان فيصفه بولتن بأنه إسلامي راديكالي، وأنه منخرط بتحويل تركيا من دولة علمانية إلى دولة إسلامية، وأنه عدواني إزاء دولة إسرائيل، مع ذلك يرى ترامب في الرئيس التركي بأنه صديق، فتبدو نبرة كراهية بولتن لأردوغان واضحة إذ يصفه بموسليني الزعيم الفاشي الإيطالي، ويبين خضوعه لبوتن عند انضمام أنقرة لعمليات جوية تركية أميركية مشتركة في سوريا، إذ كان حريصاً على إخبار بوتن بكل شيء وكان جلّ ما يخشاه أن يكون هنالك ضحايا من الروس. كما يبين حرض تركيا على إفشال الحصار الاقتصادي على إيران عن طريق البنك الحكومي التركي “خلق” ورئيسه محمد عطا الله المحكوم بالسجن على خلفية التهم التي وجهتها وزارة العدل الأمريكية بمحاولة الالتفاف على العقوبات على إيران داخل أمريكا. مع ذلك كان ترامب يعتقد أن أردوغان صديقه، ويفصل بولتن بقضايا كثيرة بين تركيا وأميركا بدءاً من الخلاف بين الدولتين حول القس برانسون، إذ طالب أردوغان ترامب بالتدخل للإفراج عن المسؤول المالي التركي محمد عطا الله حيث اتهم أردوغان حركة فتح الله غولن بتدبير هذه الاتهامات، وحاول مبادلة القس بإسقاط قضية البنك.
يسهب بولتن في الواقع في شرح سياساته الخارجية ولا سيما الخاصة بإيران، وصراعه مع جون كيلي الذي انضم إلى البيت الأبيض، كبيراً للموظفين، والتضييق عليه في زياراته للمكتب البيضاوي. مما جعله إلى نشره لمقال عن تصوره للحل الإيراني في مجلة الناشونال ريفيو، ويقول بعد أن ندّد ظريف بـالمقالة أدركت أني على الطريق الصحيح. ويقول أنه دعي لهذا السبب إلى البيت الأبيض، والتقى كوشنر، ولكن ترامب بقي متردداً في سياساته إزاء التزام إيران بالاتفاق بموجب قانون مراجعة الاتفاق النووي، ويقول أن الفوضى هي ما يسود في البيت الأبيض، مع قرب إقالة تيلرسون، ويقول أن ترامب كان خائفاً ومتردداً من إدراج الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وبالرغم من أن بولتن حثه لتنفيذها فورا لأن الحرس كما يقول بولتن هو الذي يشرف على برنامج إيران النووي وبرامج الصواريخ البالستية، فضلاً عن دعمه الواسع للفصائل الإسلامية الراديكالية السنية والشيعية. لكن ترامب كان خائفا من أن الحرس سيستهدف القوات الأميركية في العراق وسوريا، فيما لو أقدموا على تصنيفه إرهابياً، ويقول بولتن أن هذا هو رأي وزير الدفاع ماتيس أيضاً.
طبعا من يقرأ سياسة بولتن الخارجية التي يفرضها على ترامب هي سياسات متطرفة لأنها لا تراعي أي شيء اسمه ميزان قوى أو تهديد للسلم العالمي، فضلا عن استشارات متطرفة تمكن من اقناع ترامب لاتخاذها مثل حثّه على الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ووقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ودعم الرئيس الأميركي بإعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، ومن نصائحه لترامب هي ضربات استباقية لإيران وكوريا الشمالية، وإمكانية استخدام قنابل تقليدية ضخمة ضدّ بيونغ يانغ شمال المنطقة المنزوعة السلاح، وتدخل أميركي مباشر لتغيير النظام في الشمال وإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية تحت قيادة الجنوب.
الشيء الوحيد الذي يعتقد أن ترامب حققه من استشاراته هو خروجه من الاتفاق النووي مع إيران والذي عقده أوباما، ولكن ترامب كما يقول بولتن قد تعرض الى ضغوط كبيرة من قبل الاتحاد الأوربي واليابان في محاولة لإعادة إطلاق المفاوضات حول اتفاق نووي جديد، وبالفعل طلب ترامب من إيران استئناف المحادثات وفي تلك الفترة كان بولتن في طريقه إلى اليابان فمر بأبي ظبي للاستراحة، فالتقى بولي العهد محمد بن زايد، وكان ابن زايد والإماراتيون قلقين من عدم رد أميركا على استفزازات إيران المتكررة، وحاول أن يشرح لهم من دون جدوى أن المحادثات مع إيران لا تعني شيئاً جدياً ولكنهم فقدوا الثقة تماماً بسياسات الولايات المتحدة الأميركية، وكانوا يرتعشون من تدهور الأحوال الأمنية وتغوّل إيران وضعف السياسة الأميركية.
لكن ترامب لم ينجح في جرّ الإيرانيين إلى أيّة مفاوضات فقد عدوا الطلب الأميركي ضعفاً وبالتالي توقف الأمر عند هذا الحد.
يقول بولتن أن ترامب يكره الشرق الأوسط ولا يرى أي معنى لوجود أميركي فيه، وهو يردد أننا نقتل داعش من أجل أعدائنا، لا أريد البقاء على الإطلاق. وهو لا يحبّ الأكراد فقرر بشكل مفاجئ الانسحاب من سوريا وترك الأكراد تحت نيران الأتراك، وهذا من منظورات وزارة الخارجية أيضا حيث يصفها بولتن بالداء المزمن في السياسة الأميركية لانها تهتم بالمنظور الخارجي أكثر من اهتمامها بمصالح الولايات المتحدة الأميركية.
فيما يخص الصين
يرى جون بولتن أن أميركا أدركت مؤخرا الخطأ الأساسي الذي ارتكبته بمساعدة الصين، فواجهت التحدي الصيني، وهنالك اعتقاد واسع النطاق في أوساط النخبة السياسية الأميركية بأن الصين نجحت في خداع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بأنها باتت شريكاً لهم، فقد كانوا يعتقدون أن اعتماد سياسات السوق وتسهيل الاستثمارات الخارجية الضخمة، وارتباطها العميق مع السوق العالمي، وقبولها للأعراف الاقتصادية الغربية ستحولها إلى شريك حقيقي للغرب ووصلت إلى حد إدخالها في منظمة التجارة العالمية، لكن الصين تتحالف مع مجموعة البريكس لتقويض الغرب والقيام بحرب خفية لسياسات الولايات المتحدة الأميركية الاقتصادية والمالية. ومع ان ترامب يظهر سياسة قوية إزاء الصين لكنه يظهر مرونة مفرطة إزاء رئيسها، محكومة بحساباته الانتخابية فقد وعده الرئيس الصيني بأن الصين ستشتري كمية كبيرة من المنتجات الزراعية لزيادة حظوظه في النجاح في الانتخابات خاصة أن المزارعين يشكّلون قسماً وازناً من قاعدته الانتخابية.
على العموم إن قراءة هذا الكتاب ممتعة ومثيرة حقا، فهو مكتوب بطريقة سردية دقيقة، وأهميتها للمتابع للسياسات الأميركية يمكنه من خلال هذه الاحداث رؤية التحول البين في السياسة الأميركية وتغير مساراتها وستراتيجياتها