كتب : شاكر حامد

في ظهيرة يوم قائظ من أيام صيف حزيران – يونيو العام 1967 وبعد النكبة بأيام وكان عمري عشرة أعوام تعرفت عن قرب بالعاشق الملحن الكبير الراحل طالب القرغولي عندما كان ضيفا مع مجموعة من الفنانين وبحضور والدي رحمه الله في بيت جارنا الشاعر يوسف البصري في مدينة الناصرية – محلة السراي – قرب جامع السيد راضي ، كانت جلسة فنية غنى فيها القرغولي أعذب الألحان وكانت الجلسة مصممة لغرض منح الفنان حسين نعمة أغنية من ألحانه
كنت في ذلك الوقت غضا يافعا لكن هذه الجلسة كانت واحدة من العتبات التي وضعت الفن في اولويات إهتماماتي والتي تطورت فيما بعد باتجاه القراءة والأستماع الى الأذاعات ومنها ال بي بي سي خاصة في بداية سبعينيات القرن الماضي ، في العام الف وتسعمئة وثلاثة وسبعين وصلت بغداد مع الصديق الرائع الدكتور يحي البكاء في قطار واحد قادمين من مدينة الناصرية لألتحق طالبا في معهد الفنون الجميلة لدراسة المسرح والسينما ، في بغداد آفاق واسعة تفتح مخيلتك كي تقرر أن تكون فكيف وأنت قد حسمت أمرك منذ صغرك أن تكون ؟
في بغداد وتحديدا في الأذاعة والتلفزيون التقيت مجددا بالراحل طالب القرغولي العام 1975 حيث عملت فيها وانا طالب في معهد الفنون بتزكية وإهتمام من الفنان القدير الدكتور فاضل خليل ، ذكرتُ القرغولي بلقائنا السابق وأنا صغير و كان فرحا بشاب من مدينته أن يكون منتسبا للأذاعة والتلفزيون ، لم نلتقي كثيرا ولكن وبعد أن عملت مع الفنان الكبير فاروق هلال (أطال الله في عمره ) التقينا عن قرب في جلسات عدة تطورت فيما بعد الى عمل وإنجاز ابداعي في الثمانينات ، ومن إحترامي الكبير له ومحبته لي كان يسميني ( شكرلمه ) وهي نوع من الكيك المُحلى الذي كانت تشتهر به العاصمة ومدن العراق ، استمرت علاقتي مع القرغولي وتطورت وكنت أستغل محبته لي وعلاقتي معه عندما كان مديرا للموسيقى والغناء وأنا مساعدا لمدير التلفزيون الأستاذ فيصل الياسري في تمرير بعض من أغاني المطربين الشباب وعرضها في التلفزيون مثل هيثم يوسف وقاسم السلطان من دون موافقة اللجنة الفنية التي يترأسها القرغولي حيث كنت أرى في لوائحها قسوة على الشباب إلا انني أدركت الآن أنها كانت مفيدة بعد الأسفاف الذي نسمعه من بعض هؤلاء المطربين، إستمرت علاقتي مع القرغولي بوعي آخر حيث صعد نجمي وأصبح فخرا له كما كان يقول خاصة عندما عملت مع الموسيقي الكبير الراحل منير بشير و بعدها ولوجي ميدان العمل الصحفي التلفزيوني في القنوات الفضائية .
بعد الأحتلال العام 2003 إتصلت به وأنا في ابو ظبي وهو في الشارقة ودعوته شوقا اليه ، حضرَ هو وبناته الثلاث من الصديقة زوجته الثالثة المخرجة والكاتبة إلتفات عزيز ، مكثوا في بيتي بأبو ظبي أربعة أيام وكانت أيام مسرة ومحبة والفة ..
في عمان كنت مع الراحل على الدوام وكان يستشيرني في بعض المشاريع المطروحة عليه وفعلا حققت له بعضا منها دفعة جديدة للحياة وفيها إصدار شريط بصوته لأجمل ألحانه برعاية صديق وتاجر عراقي … في العام 2007 وفي عمان حدثني القرغولي العاشق إنه يريد أن يتزوج ، قلت له يا أبا شوقي هل مازلت قادرا على تحمل الهم والغم ؟ قال يا شكرلمة أنا بحاجة الى إمرأة في لجة هذا الوضع المأساوي ، بحاجة الى إمرأة تمسح همومي فكيف بإنسانة رائعة راقية .. قلت توكل على الله .. في اليوم التالي إتصل بي وقال المرأة التي حدثتك عنها وصلت اليوم الى عمان ضمن وفد حكومي وأريد أن التقي بها خارج الفندق الذي تسكنه وبعيدا عن عيون زملائها كي لا أوفر حرجا لها .. قلت ماهو المطلوب ياأبا شوقي ؟ قال أريد أن تأتي مع زوجتك أم عشتار ونذهب سوية الى فندق أوركيدا الذي تسكنه في الشميساني ، ولأني أحب هذا العاشق المغرم القرغولي حيث تصورت نفسي في عمره وقد أحتاج لهذه الخدمة قمت بإقناع الحاجة ام عشتار وقلت لها إن طالب يهمني هو وحياته وآلامه لذا أرجوك أن تحققي لي هذا الطلب ، إقتنعت أم عشتار وذهبنا الى الفندق وبقي طالب في السيارة منتظرا .. وجلسنا انا وأم عشتار في الصالة بإنتظار زوجة القرغولي المرتقبة ، سألتني أم عشتار هل تعرفها عندما تراها قلت لا.. قالت إذن كيف ؟ قلت طالب قال هي إمرأة من أهل الله فهذا يعني أكيد انها إمرأة كبيرة وستعرفني بالتأكيد و أننا بإنتظارها ، بعد عشرة دقائق وإذا بأمرأة جميلة راقية ذات شعر أشقر تدلف من المصعد وتتقدم نحونا قائلة مرحبا أبو عشتار ! قلت أهلا ومرحبا .. قالت أنا …… أهلا وسهلا أقدم لك زوجتي الحاجة أم عشتار ، ذهبنا الى السيارة ، وفي الطريق قلت له ( من أهل الله أبو شوقي ) ضحك وقال شتعرف أخوك يختار غلط .. وضحكنا وأوصلتهم الى منطقة الصويفية ورجعنا اليهم بعد ثلاث ساعات لنرجع الجميلة الباهرة الى الفندق والتي تزوجها القرغولي فيما بعد وإستقر معها في سوريا ، في دمشق وعند كل زيارة لي لابد من اللقاء مع العزيز الراحل في ستوديو الصديق الملحن كريم هميم ( أبو أصيل ) وفي آخر زيارة الى دمشق العام 2011 كان الراحل القرغولي في بدايات مرض لم يشعر به وهو داء السكري وقمت بتكليف الزميل عساف عبود مراسل بي بي سي في سوريا بعرضه على أخصائيين أصدقاء له ، وفي السويد وعند وصوله أخبرني الصديق المبدع الفنان المايسترو علاء مجيد بمرض القرغولي وكان علاء جزء من الوفاء والشفاء له ، في آذار – مارس العام الفين وأربعة عشر طلبت مني الزميلة ناهد النجار معدة و مقدمة برنامج صندوق النغم في ال بي بي سي أن تعمل حلقتان من برنامجها عن الغناء والموسيقى في العراق بعد مرور عشر سنوات من الأحتلال ، وطلبت مني المشاركة في تقديم البرنامج وإتصلت بالعزيز الراحل طالب القرغولي والعزيز الفنان حسين نعمة والفنان علاء مجيد وكان في الأستديو الفنان عازف العود إحسان الأمام وسجلنا البرنامج على مدى ساعتين .
في آخر إتصال مع الراحل القرغولي قال لي يا شكرلمة تبا للمرض صحتي جيدة الآن وسأذهب الى بغداد لأعيد نشاطي وستكون باكورة أعمالي في مهرجان بغداد عاصمة الثقافة العربية .. مات القرغولي ولم تحتفي به بغداد التي غيرَ من لونها الموسيقي وجعلها تغني أجمل ألحانه … أبا شوقي رحمك الله .. وتقبل إعتذار شكرلمة الذي تحبه وأحسب إنني لم أقصر معك لكنني لم أقدم لك الكثير مقابل محبتك .. وداعا أيها الكبير وستبقى ذكراك في قلوبنا وتشنف أسماعنا .

By Miimo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *